"البسطاء" الكلمة السهلة في تركيبها، العميقة المعنى، فلا أحد يمكنه التعبير عن البسطاء بصدق، مهما قلنا وكتبنا لن يفي هذا بوصف أوجاعهم وآلامهم، مثلما يعبرون هم عن أنفسهم بعفوية، فما ينقل عنهم مكتوباً أو متلفزاً يشهد بوجعهم وتلقائيتهم الشديدة ودون ترتيب مسبق وبتعبيرات بسيطة كما هم أيضاً. يقولون إن نحو نصف في المائة -%.05- فقط من تعداد أي شعب هم من يشكلون الطبقة السياسية -يشتغل ويهتم بالسياسة- مثل الأحزاب وجماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدني والنشطاء وغيرهم، أما البقية لا تدري من لعبة السياسة شيئاً -بل وتبتعد عنها من الأساس- فقط يهمها حياتها اليومية والمعيشية ولا تعبأ بالبقية. عندما ننظر إلى الطبقتين السابقتين نجدهما غير مترابطتين ولا توجد حلقات وصل بينهم، وهذه معضلة كبيرة، فمن ناحية لا تسعى الطبقة السياسية لصياغة مطالب الناس واحتياجاتهم في صورة مطالب سياسية واقتصادية، ولا الطبقة السياسية قادرة على الاستفادة من حراك الطبقة البسيطة من ناحية أخرى، وهذه معادلة صعبة لم يقترب منها أحد بقوة حتى الآن، وللدلالة على هذا الكلام أن العامل الرئيسي في ترجيح كفة استمرار ثورة 25 يناير/كانون الثاني هي الجموع الغفيرة غير المسيسة التي انضمت للحراك في جمعة الغضب 28 يناير، آملين في تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وهذا كان دافعها أيضاً في المشاركة في الحراك والعملية السياسية والانتخابية التي تلت الثورة إلى ما قبل الانقلاب، ثم ارتدت جماهير البسطاء لمنوالها الأول بعدم الاكتراث بالسياسة، بعد أن فشل الجميع في استيعاب مطالبهم، والسعي الجاد لتحقيقها، ثم جاء الانقلاب لينسف أحلام البسطاء -وهم لا يدرون- في الحصول على الحد الأدنى للحياة. وللحق فإن البسطاء المعدمين لم يشاركوا في عودة الحكم العسكري مرة أخرى، وإن الطبقتين العليا والوسطى هم من أيدوا الانقلاب بعد أن رتبوا له بمساعدة الأجهزة الأمنية والمخابراتية، وأعادوا الحكم العسكري إلى الصدارة مجدداً، بعد أن توارى قليلاً بعد الثورة، وإن طرفي الصراع هما من أسهما في عودة الحكم العسكري، سواء المعارضة التي دعت وساندت الانقلاب (الكنيسة والمسيحيون - السلفيون - القوى الديمقراطية والليبرالية والقومية وكثير من اليساريين.. أو إجمالاً من يطلقون على أنفسهم زوراً القوى المدنية)، -بالإيجاب- من جانب، أو من كانوا يحكمون -الإخوان- بفشلهم وبأخطائهم وطريقة إدارتهم للصراع -بالسلب- على جانب آخر. أما البسطاء المعدمون، فكانوا خارج دائرة الفعل، هم لم يأتوا بالانقلاب، ولم يساندوه أيضاً، حتى وإن لم يكن لهم دور في الوقوف ضده انتظروا تحسين حياتهم فساءت أكثر. البسطاء يجأرون الآن تحت وطأة الفقر وضغوط الحياة الاقتصادية، لكنهم لا يجدون من يثقون فيه، ليتبنى مطالبهم وفق برنامج وطني يحقق لهم ذلك؛ لذلك هم لا يؤيدون أحداً، ولا يقفون ضد أحد أيضاً -وهذه إحدى إشكاليات البسطاء- فلا الإسلاميون سعوا بجد لتحقيق مراد البسطاء، ولا القوى المدنية تسعى لتحقيق مرادهم، ولا يوجد على أجندتهم بند البسطاء أصلاً، وبرلمانهم المزعوم يصرخ بهذه الحقيقة. ولأن البسطاء غير مسيّسين فيصعب أن يخرج من بينهم من يقودهم لتحقيق مطالبهم -لكن ليس بالمستحيل- لذا لم يكن للبسطاء رموز إلا بعض الاحتفاء بكلماتهم وأفعالهم، ثم ينتهي الأمر سريعاً. وهذا الكلام ليس المقصود منه تثبيط البسطاء، بل على العكس دعوة ليقودوا أنفسهم بأنفسهم. البسطاء وقود أي حراك وآخر من يحصل على مغنم -إن حصل- السؤال الملح هنا للنخب: إذا استطاع البسطاء إحداث حراك كبير وخلخلة للأمور ماذا أنتم فاعلون؟ أخيراً: إن من يريد أن ينجح في أي حراك لا بد أن يسعى لإدخال العامة والبسطاء في معادلات الثورة والوطن مجدداً بطريقة تضمن لهم تحقيق مطالبهم. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :