القاهرة: الخليج ما بين الفصل الأول في سيرة نزار قباني الشعرية، التي ضمنها كتابه قصتي مع الشعر، والفصل الأخير الذي لم يكتبه، أو يشهد سطوره الأخيرة في لندن، دار لغط كبير حول الشاعر باستمرار، حيث لم يختلف المشهد الأول في سوريا كثيراً عنه في لندن، حين أصدر الشاعر ديوانه الأول قالت لي السمراء في 300 نسخة، وكما يقول: تحرك التاريخ ضدي وتحرك التاريخيون، ورفضوا الكتاب جملة وتفصيلاً، ورفضوا عنوانه، ورفضوا مضمونه، ورفضوا حتى لون ورقه وصورة غلافه، هاجموني بشراسة وحش مطعون، كان لحمي يومئذ طرياً، وسكاكينهم حادة، وابتدأ حفل الرجم. في مجلة الرسالة سنة 1946 كتب الشيخ علي الطنطاوي: طبع في دمشق كتاب صغير زاهي الغلاف ناعمه، ملفوف بالورق الشفاف الذي تلف به علب الشوكولاته في الأعراس، معقود عليه شريط أحمر، فيه كلام مطبوع على صفة الشعر، فيه أشطار طولها واحد إذا قستها بالسنتيمترات. ويقول: إن الديوان لا خيال فيه، لأن صاحبه ليس بالأديب واسع الخيال، بل هو مدلل غني، عزيز على أبويه، وهو طالب في مدرسة، وقد قرأ كتابه الطلاب في مدارسهم والطالبات، وفي الكتاب مع ذلك.. تجديد في بحور العروض يختلط فيه البحر البسيط والبحر الأبيض المتوسط، وتجديد في قواعد النحو لأن الناس قد ملوا رفع الفاعل ونصب المفعول، ومضى عليهم ثلاثة آلاف سنة وهم يقيمون عليه، فلم يكن بد من التجديد. يقول نزار قباني في كتابه قصتي مع الشعر: هذا نموذج مصغر لواحد من الخناجر، التي استعملت لقتلي، وصوت واحد من أصوات القبيلة، التي تحلقت حولي، ترقص رقصة الموت، وتقرع الطبول، وتتلذذ بأكل لحمي نيئاً، وإذا كنت قد نجوت من هذا الاحتفال البربري بقدرة قادر، فإن الحروق والرضوض والكدمات، جعلتني أكثر تماسكاً، وأكثر إدراكاً للعلاقة العضوية التي تربط الإبداع بالموت والكتابة بالاستشهاد، نحن حين نكتب نكسر شيئاً، ومن طبيعة الشيء المكسور أن يصرخ دفاعاً عن نفسه. وفي عام 1954 نشر نزار قباني قصيدته خبز وحشيش وقمر وكانت النتيجة: ضربتني دمشق بالحجارة، والبندورة، والبيض الفاسد، ولم تقف دمشق عند هذا الحد، ففي عام 1955 وفي أول ظاهرة في العالم يحاول المجلس النيابي السوري محاكمة الشاعر الذي علق على ذلك، قائلاً: إنها العمائم نفسها التي طالبت بشنق أبي خليل القباني، طالبت بشنقي، والذقون المحشوة بغبار التاريخ، التي طلبت رأسه، طلبت رأسي، خبز وحشيش وقمر كانت أول مواجهة بالسلاح الأبيض بيني وبين الخرافة، وبين التاريخيين. كان نزار يمارس عمله الدبلوماسي بالسفارة السورية، إلى أن فاجأته حرب يونيو/حزيران 1967 بصهدها اللافح، فانفجرت نافورة شعر غاضبة في وجه الجميع، وكانت قصيدته هوامش على دفتر النكسة هي المنشور السري الذي يتم تهريبه من بلد إلى آخر، وقد أدى ذلك إلى منع قصائده من الإذاعة، وحظر نشر كتبه في مصر، وهنا يقول: كتبت الهوامش في مناخ المرض والهذيان، وفقدان الرقابة على أصابعي، لذلك جاءت بشكل شحنات متقطعة وصدمات كهربائية متلاحقة، تشبه صدمات التيار العالي التوتر، كما أنها من حيث الشكل لم تكن تشبه أياً من قصائدي الماضية. يقول أيضاً: أعترف لكم أنني للمرة الأولى أخالف تقاليدي الكتابية الصارمة، وأتعامل مع الانفعال تعاملاً مباشراً، هل كان عليّ- يا ترى- انسجاماً مع منطقي الفني أن أنتظر انحسار مياه الطوفان حتى أكتب عن الطوفان؟ وبالتالي هل كان على الأدب العربي شعراً ورواية ومسرحية أن يضع أعصابه في ثلاجة، حتى ترحل العاصفة وتنحسر الغيوم الرمادية، وينبت للشجر المحترق أوراق جديدة؟. وكتب نزار قباني رسالة إلى جمال عبد الناصر يشرح فيها الموقف، يقول في قصتي مع الشعر: روى لي أحد المقربين من عبد الناصر أنه وضع خطوطاً تحت أكثر مقاطع الرسالة، وكتب بخط يده التعليمات التالية: 1 - لم أقرأ قصيدة نزار قباني إلا في النسخة التي أرسلها إلي، وأنا لا أجد أي وجه من وجوه الاعتراض عليها. 2 - تلغى كل التدابير التي قد تكون اتخذت خطأ بحق الشاعر ومؤلفاته، ويطلب إلى وزارة الإعلام السماح بتداول القصيدة. 3 - يدخل الشاعر نزار قباني إلى الجمهورية العربية المتحدة متى أراد، ويكرم فيها كما كان في السابق. ومما جاء في الرسالة: سيادة الرئيس جمال عبد الناصر إنني لم أقل أكثر مما قاله غيري، ولم أغضب أكثر مما غضب غيري، وكل ما فعلته أنني صغت بأسلوب شعري ما صاغه غيري بأسلوب سياسي أو صحفي، ويواصل: أوجعني يا سيادة الرئيس أن تمنع قصيدتي من دخول مصر، وأن يفرض حصار رسمي على اسمي وشعري في إذاعة الجمهورية العربية المتحدة وصحافتها إلى أن يقول: سيادة الرئيس إنني أشكو لك الموقف العدائي، الذي تقفه مني السلطات الرسمية في مصر، متأثرة بأقوال بعض مرتزقة الكلمة والمتاجرين بها، وأنا لا أطلب شيئاً أكثر من سماع صوتي، فمن أبسط قواعد العدالة أن يسمح للكاتب أن يفسر ما كتبه، وللمصلوب أن يسأل عن سبب صلبه. يا سيدي الرئيس لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك!. يعلق نزار على تلك الواقعة، قائلاً: لقد كسر الرئيس عبد الناصر بموقفه الكبير جدار الخوف القائم بين الفن والسلطة، بين الإبداع والثورة، واستطاع أن يكتشف - بما أوتي من حدس وشمول في الرؤية - أن الفن والثورة توأم سيامي ملتصق.. وحصانان يجران عربة واحدة، وأن كل محاولة لفصلهما سيحطم العربة ويقتل الحصانين. هناك صفحة أخرى من صفحات حياة نزار قباني، ومضمونها أنه انضم إلى السلك الدبلوماسي السوري في أغسطس/آب سنة 1945 كان في الثانية والعشرين من عمره، يوم عين ملحقاً بالسفارة السورية بالقاهرة، ومنذ تلك اللحظة ظل مأخوذا بلعبة السفر لمدة عشرين عاماً (من 1945 إلى 1966) صار قلبه مملوءاً كحقيبة امرأة، على حد تعبيره، ومزدحماً كمدينة من مدن الصين. كان للعمل الدبلوماسي تأثيرات كبرى على نزار الشاعر فهو يقول في قصتي مع الشعر: مع كل خطوة كنت أخطوها، كان قلبي يكبر، وشبكية عيني تتسع، وآبار نفسي تمتلئ، والبدوي في داخلي يرق، ويشف ويتحضر، إن اصطدامي بالعالم وبالمدن واللغات والثقافات، جعل ذاكرتي كذاكرة آلة التصوير، لا تنسى شيئاً ولا تهمل شيئاً، ومن هذا المخزون الهائل من الخطوط والألوان والأصوات ومن رائحة البواخر الحادة ورائحة الفنادق، التي تكتب وتمحو وجوه نزلائها، ونوافذ القطارات التي تمضغ في طريقها آلاف الأشجار ومناديل المودعين. شهادة نزار قباني عن العمل الدبلوماسي لا تعني أحداً سواه، لا تخص غيره ممن امتهنوا هذا العمل، فهو شاعر متمرد باستمرار على الواقع الذي يحيطه، حتى لو تحقق هذا الواقع، فلم يكن ليكف عن التمرد، وعلينا أن نلتمس العذر له حين يقول: إن عالم السفارات متحف من متاحف الشمع، كل ما فيه مصطنع ومزور وغير حقيقي، وكل المعروضات فيه مطلية بقشرة سميكة من التظاهر والنفاق، لا يمكن لأي دبوس أن يخترقها، واللغة الدبلوماسية لغة عائمة، تنمو كالفطر على أطراف الفم وتموت في مكانها، إنها لا تضيء شيئاً ولا تعني شيئاً ولا تعطي شيئاً، إنها كالزهور الاصطناعية، ألوانها فاقعة، ولكن لا رائحة لها. ورحل نزار قباني الذي توفاه الله في منزله بلندن يوم الخميس 30 إبريل/ نيسان 1998 عن عمر يناهز 75 عاماً، وبقيت قصيدته: أنا شاعركم المجنون يا أهل الشام فمن رآني منكم فليلتقط لي صورة تذكارية أنا قمركم المشرد يا أهل الشام فمن رآني منكم فليتبرع لي بفراش وبطانية صوف لأنني لم أنم منذ قرون.
مشاركة :