حمدي الجزَّار: كل شيء جميل حين تكون طفلاً

  • 7/11/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

القاهرة: الخليج حمدي الجزار خريج كلية الآداب قسم الفلسفة، يذهب إلى الرواية بثقة كبيرة، منذ عمله الأول سحر أسود الذي حصد الجوائز، وترجم إلى أكثر من لغة، المشكلة هنا أن العمل الأول كثيراً ما يكون عقبة في طريق المبدع، حال حقق هذا النجاح والانتشار، كما هو شأن رواية حمدي الجزار الأولى، لكنه خالف التوقعات، وضرب ثانية بروايته لذات سرية التي منحته رسوخا في عالم الكتابة، وتأكد هذا حين أصدر روايته الحريم. يقول حمدي الجزار: وُلدتُ بعد أيام قليلة من وفاة جمال عبد الناصر، وكان أبي واجمًا حزينًا، رأيت الدنيا في أول أكتوبر سنة1970، في بيت جدي لأبي في مدينة البدرشين، بالجيزة، بيتنا يقع في منتصف شارع مدرسة الفَلاَح تقريبًا، صغير ويتكون من طابقين، الدور الأرضي دكان وورشة نجارة، وفي الطابق الثاني نعيش كلنا، أمي وأبي وجدتي وطيورها. في الصباح ألعب، لنحو ساعة، مع الكتاكيت والبط والحمام على السطح، وأعبث بكتب صفراء قديمة، مرصوصة بعناية بعضها فوق بعض، وبلا صاحب أعرفه، ثم أنزل السلالم الحجرية إلى الورشة، أجلس على الأرض مع الصبيان، أطفال بعض جيراننا الذين يأتون لتعلم الصنعة، ومقابل أسبوعيّة، يأخذونها بعد صلاة كل يوم جمعة، من يد أبي، أنظف بمهارة حزم الأخشاب الصغيرة، تعلمت بسرعة استخدام الكماشة لنزع المسامير، والمغناطيس لجمعها، وكنت، أيضاً، أقضي حاجات أسطوات الورشة الذين يعملون مع أبي طوال النهار، الورشة مفتوحة من السابعة صباحًا للسابعة مساء، وتضج بالحركة والعمل، وأبي شاب في عنفوانه، بشارب أصفر كثيف، وقلم كوبية على أذنه. يواصل الجزار: أبي ضحوك، وطيب مع الصنايعية والزبائن وتجار الأثاث الذين يأتون لشراء شغل يديه، وعلى الرف أمامه مسجّل مفتوح دائماً، وهو يعمل أمام بنكه الكبير، ويقرع الخشب بشاكوشه، شاكوش أبي ثمين عنده وحبيب، يد الشاكوش من خشب الزان القوي وله رأس من الصلب، وعلى هيئة رأس حصان، وأبي يحب السماع، يحب تلاوة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وأم كلثوم وعبد الوهاب وسعاد محمد، وينسجم مع قصص الشيخ طلعت ومواويل يوسف شتا، وأبو دراع، ويضحك لسماع شرائط الشيخ كشك ومونولوجات سيد الملاح. عند تشطيب غرف النوم يبتكر أبي فورمات خاصة به وحده وبورشته، يقص ورق الكرتون السميك بالأشكال التي يريدها: قلوب، عيون، طيور، زخارف وغيرها، وينفذها على قطع الأثاث، يضع الفورمة على سطح قطعة الموبيليا أمامه، ويرفع بخاخة الألوان ذات الماسورة الرفيعة الطويلة إلى فمه، وينحني، وينفخ متحركًا حول القطعة فيرتسم فوقها الشكل الذي أراده، بألوان مبهجة، يرسم تصميماته على دُلف الدواليب، ووجوه الأسرة وقرص التسريحات، ويسميها بأسماء بعض الأغاني، مثلاً.. هناك فورمة: إنت عمري وأخرى القلب ولا العين؟ وثالثة اسمها الأمل فُتنتُ بالرسم على الموبيليا، وحلمتُ بأن أصير أسطى ومعلماً كأبي، وبأن أعمل وأنا أستمع إلى أغاني نجاة وشادية وعبدالحليم حافظ، أحببت عبد الحليم حافظ لمحبة بنات شارعنا الجميلات له. إذاً الفن والجمال جينات وراثية انتقلت من الأب إلى الابن، الذي سيرسم عوالم من ابتكاره في أحد أهم فنون الكتابة، وهو هنا يوضح: في ليالي الشتاء الباردة تجمعنا جدتي فاطمة حول منقد النار، مرات تحكي عن حياتها حين كانت فتاة، بنت بنوت والنيل يصل حتى وابور طحين عوض في وسط المدينة الحالية، والقريب من شارعنا، تروي مراراً وتكراراً حادثة غرقها في النيل وإنقاذ صياد لها. في الفجر ذهبتْ - الكلام عن الجدة فاطمة - إلى النيل لتغسل بعض الملابس، جذبها صفاء الماء وهدأة الفجر، والرغبة في السباحة فنزلت للنهر في الماء، تسبح رائقة سعيدة، بعد وقت جذبتها الأمواج فغاصت، وأوشكت على الغرق، مع انحسار الموج عن رأسها، وشهقتها، رأت صياداً فوق قاربه الصغير يجدف نحوها، لما اقترب منها خلع جلبابه بسرعة، ورمى نفسه في الماء وسبح نحوها، مد ذراعيه إليها، وحملها على صدره، وأخرجها من الماء، ورفعها إلى المركب، وسترها بجلبابه القديم. في سن الخامسة - يقول الجزار- أرسلني أبي إلى حضانة فكنت أبكي لأعود للبيت، أحضر لي لوحاً أسود وأقلام غاب وأرسلني إلى الكتَّاب الكبير، حفظت به الجزء الأول من القرآن الكريم، لكنني لم أمكث به طويلاً، اشترى لي كراسات وأقلام رصاص، وأخذتني أمي من يدي لبيت مُدرَّسة من معارفنا لتعدني للمدرسة، علمتني الأبجدية، والأرقام، فأحببتها، وأحببت الكلمات والكتابة والكراسات والأقلام. قبل سنتي الدراسية الأولى بشهور حدث أني كنت ألعب عند طلمبة كبيرة في أول الشارع، منها تأتي النسوة بالماء للبيوت في أوانٍ معدنية كبيرة، وكانت أمي واقفة في الطابور تنتظر دورها، كان الوقت شتاء، والمطر خفيفاً حينتشاقيت وحاولت صعود درجات عمود النور الحديدي، أمسكت بي الكهرباء وصرت والعمود شيئًا واحدًا، أمي صرخت مرتاعة، وقفزت إليّ، واحتضنتني من الخلف، وقاتلت الكهرباء، ناضلت موتي وموتها حتى طرنا في الهواء، ووقعنا على الأرض وأنا في حضنها، بين يديها المتصلبتين حول خصري، وجسمي الضئيل، لو كانت غافلة عني- كما يقول الجزار- في ذلك الوقت فالمؤكد أنني لم أكن الآن، هنا، بعد نحو أربعين عاماً، أكتب هذه الكلمات. أبي كان متطرفًا في مسألة تعليمي إلى حد العقاب الشنيع حين أهرب من المدرسة، وأقفز خارج أسوارها مع أقراني، مرات نذهب للعب الكرة في الشوارع، أو لمركز الشباب، ومرات نسير بحقائب المدرسة فوق ظهورنا حتى نصل إلى ميت رهينة، ومن بعدها آثار وصحراء سقارة، حيث نقضي الساعات نلعب ونلهو، ونعود مع موعد خروج المدارس يقسو عليّ أبي، وهو يريد لي الشهادة الكبيرة. يواصل الجزار: كل عام أقدم الإذاعة المدرسية في طابور الصباح مع أقراني المتفوقين، وأجتاز الامتحانات وأنا أول المدرسة، وأبي يوزع زجاجات البيبسي على جيراننا، ويشتري جاتوه لنا، ونهيص في البيت، وفي طفولتي أحببت الكتب واللوحات والتماثيل، خالي شاب متعلم، وموظف بشركة الحديد والصلب بالتبين، ويرسم بالألوان المائية على القماش أهرام ومراكب وطيوراً، ولديه كتب قليلة في حجرته في بيت جدي لأمي، وجارنا الأستاذ عبد اللطيف- الذي يعيش في الدور الأرضي من البيت المقابل لبيتنا- صديق لأبي، وعنده لوحات وتماثيل وكتب، ويأتي في بعض الأمسيات ليشرب الشاي مع أبي في الورشة، وبيده أزميل وحجر ينحته امرأة، أو طيراً، أو حيواناً، ويتسامر مع أبي وهو يعمل، وأنا أراقب أيديهما العاملة. كنت أفرح جداً بالمنحوتات الصغيرة التي يهديها لي عم عبد اللطيف. في الإجازات الصيفية - الكلام للجزار- أفعل أشياء كثيرة جداً، أعمل بالورشة، ألعب مع فريق مدرسة الكرة بمركز الشباب، أخرج مع خالي للصيد في النيل، أقود دراجتي الرالي وأجوب قرى منف وسقارة، والعزيزية، حين كبرت وصرت في الإعدادية تجرأت على المضي بعيداً جداً، في الصباح أقود دراجتي على طريق ترعة المريوطية حتى أصل للهرم، وأعود في المساء. وحدي، عرفت طريقي لعم عليّ الورّاق، ولموقعه في سوق المدينة الأسبوعي، سوق الأربعاء بطول المدينة كلها من موقف السيارات بمدخل المدينة، وحتى المقابر على مشارف قرية العزيزية، الناس يأتون لبيع وشراء كل شيء، يأتون من قرى شهيرة، في مصر والعالم: ميت رهينة (منف عاصمة القطرين) سقارة، دهشور، أبو صير، الشوبك.. المدينة كل أربعاء مزدحمة بالناس من كل فج عميق. العم علي يأتي في نحو الخامسة صباحاً يقود حماره وعربته الكارو المحملة بأجولة من الصحف والمجلات والكتب، في موقعه المعتاد، بأرض فضاء، يلقي أجولته، وأنا واقف معه، أمد إليه يدي بربع جنيه، فيأخذه ويضعه في سيالة جلبابه البلدي، ويبتسم لي: خد اللي يعجبك، وشَهِل. بسرعة أفرغ كل الأجولة، باحثاً عن المجلات والكتب الثمينة، أسبوع أظفر بكتابين جيدين، وأسابيع لا أجد بالأجولة سوى الصحف القديمة التي سيوزعها العم علي على بائعي السوق، ليلفوا فيها أصناف بضائعهم. يواصل الجزار: طوال سنوات المرحلتين الإعدادية والثانوية كنت أشتري من عم علي كتباً قديمة بورق مهترئ أحياناً، وكتباً جديدة بصور لامعة، وقع في يدي من هذه الأجولة القديمة روايات وقصص لنجيب محفوظ ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي، ومجلات الهلال والموعد وطبيبك الخاص، وكتب لطه حسين وأنيس منصور وزكي نجيب محمود، وأشعار لصلاح جاهين والأبنودي، وروايات كثيرة مترجمة، لم أكن أفهم جيدًا ما أقرأ لكنني أحببت القراءة نفسها، فصارت عالمي الخاص، وسري في بيت لا يقرأ فيه أحد. القراءة أيضاً أوحت لي أن أكتب. كنت في الثانية عشرة حين كتبت ما اعتبرته قصة قصيرة! كتبت صفحتين في كشكول عن صبية في مثل سني، جميلة وفقيرة وتشتري خبزاً من الفرن، وبعدها خصصت هذا الكشكول لقصصي وخواطري، وكتبت أول رسالة غرامية، إلى زميلتي الجميلة في الفصل في ثلاثة سطور، قلت إنني أحبها، وإنني أريد مقابلتها في المساء عند سيدي أبو عمر. بعد ذلك بأعوام طويلة حزت جائزة جامعات مصر في القصة في عام 91، عن قصة الإمام وزوجتي واستغرق أمري مع الكتابة نحو أربعة عشر عامًا أخرى لأصل إلى نشر روايتي الأولى سحر أسود التي صدرت عام 2005.

مشاركة :