من علا -غ: «أنا باحثة دكتوراة وجاء موضوع الجوهر الذي تكلمت عنه يوما بلقاء لك بالرياض ثم في جامعة المجمعة، وقلت إن علم الرياضيات ينعكس مع المنطق ليشكل جوهرا لكل مادة، وحيث إني بصدد تفسير موضوع المنطق والفيزياء أتوقع منك أن تشرح القصد من الجوهر». لا أعلم بالضبط ماذا قلت في الرياض دكتورة علا، أو في جامعة المجمعة لكونهما كانا لقاءين تفاعليين يسأل الناس وأنا أحاول أن أجيب. ولا علاقة للجوهر الذي دوما أقصده بالنظرة الفلسفية عند الرواقيين اليونانيين ولا عند المناطقة وأهل الكلام، ولا في الماورائيات. وعلاقته بالفيزياء ليست علاقة كونية، وإنما علاقة تحليل الذرات، أو قابلية المادة للتحليل لذرات للحكم عليها. لكن أستأذنكم لشرح ما أعني بالجوهر. حين تأخذ كرة حمراء من طفل يلعب بها فإنه سيقول لك أعطني الكرة، ولن يقول لك في أغلب الأحوال أعطني الكرة التي لونها أحمر، لأن الصفة الثابتة للكرة هي أنها دائرية فارغة من الداخل إلا من الهواء. وحين لا تكون الكرة أمامنا، فإن مجرد كلمة كرة تستدعي بالمخيلة تلك الكرة التي صفتها الدائرية والفارغة من الداخل. وهذا هو الجوهر، أي شكل الكرة الأساسي بغض النظر عما يكتسبه من أي شكل أو تصميم خارجي فهذه قشور على الجوهر أو إضافات لا تغير في مادته، ولكن تضفي صفة خارجية لا تستقر في الأذهان بينما يستقر الجوهر ويبقى. وعندما أتكلم عن الجوهر أتكلم عن صفة ثابتة تكون عن إنسان ما، إما أن نشكلها نحن في أذهاننا وتبقى، وإما أن يشكلها هو لنا في أذهاننا وتبقى. عندما تسمع المتنبي سيخطر لك صفة الشاعر الثابتة في ذهنك، حتى لو لم تكن تحفظ بيتا واحدا له. وعندما تسمع اسم أديسون فإن صورة المخترع العبقري تستقر في ذهنك حتى لو صعب عليك عد اختراع واحد. يبقى العقاد أديبا مفكرا بلا شهادة أكاديمية، لأنها إضافة وليست جوهرا، كما أن طه حسين يبقى في عقولنا أديبا ولا يعرف الكثيرون من أين حصل على شهادة الدكتوراة وما كان موضوعها. وعندما يرحل الناس يبقى جوهرهم بأذهاننا. الأشخاص الذين ذكرتهم رحلوا بمادتهم وبقي جوهرهم الذي كانوا عليه أحياء. كان ابن خالي صلاح السحيمي بجوهره بالنسبة لي رفيق حياتي الصامت، معي دوما في سفري وترحالي، ونتمتع بالسفر معا رغم طبيعته الصامتة. عندما انتقل إلى رحمة ربه بمرض الرحمة عم صمت حقيقي على العالم بدونه، كان جوهره شاهق الحضور معي رغم صمته، وبقي بعد رحيله. وقوة وجود جوهره أني لم أعد أسافر بعده إلا اضطرارا، اكتشفت أن المتعة كانت أولا بسبب رفقته وليست أماكن السفر التي زرتها بعده، ورأيتها موحشة باردة وضربتني عاصفة الوحدة. علم الرياضيات أجمل فلسفة عقلية منطقية، ولا أقارنه بفلسفة الكلاميين. والفلسفة العلمية أو الرياضية واضحة عند فلاسفة الألمان مثل هيجل وكنت.. وشبنهاور إلى حد ما. وقوية أيضا عند الفارابي وابن سينا. على أن شيخ فلاسفة الرياضيات في القرن العشرين الإنجليزي برتراند راسل قال، إن علماء الرياضة يقولون ما لا يعلمون. وهو يقصد الجوهر، فمثلا 2+2 يساوي 4، ولكنه لا يعرف ولا يهمه إن كانت أربع تفاحات أو أربع قنابل. هي معادلة جوهرية في الأساس. جوهر أمتنا هل هي العروبة أو الإسلام كما سألتني علا أيضا؟، نحن بلا شك مسلمون كجوهر روح. وهو الجوهر الذي يبقى أكثر من الجغرافيا، لذا نتعاطف مع مصير أي مسلم في أي مكان بالعالم.. وبالصفة الاثنية جوهرنا عرب ولو عشنا في ريكيافيك الأيسلندية. وأخيرا جوهركم بالنسبة لي أنكم قراء، وبفضل جوهركم بعد الله استطعت أن أصل هنا لأكتب تلك السطور.
مشاركة :