سهير المصادفة في «بياض ساخن»

  • 7/13/2016
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

«بياض ساخن» (الدار المصرية اللبنانية) هي الرواية الرابعة للكاتبة المصرية سهير المصادفة. فمنذ «لهو الأبالسة»، وحتى هذه الرواية، مروراً بـ «ميس إيجيبت»، و «رحلة الضباع»، نلاحظ وعي الكاتبة الحاد بالواقع وتحولاته المتلاحقة سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو القيمي. وهذا إن دلّ فعلى أنّ الكاتبة تضعنا أمام سرد متورّط في الإشكاليات اليومية والمصيرية العامة، من دون أن يخلّ بجمالياته. وهذا على العكس مما يوحي به – مبدئياً- عنوان الرواية الأخيرة، بحيث يطرح في بعض دلالاته، إيحاءً بالإروسية. لكنّ الكاتبة تتجاوز هذا المعنى الأوّلي المباشر لتطرح مفاهيم متعددة لدالة البياض تدور في غالبها حول تيمة الانتهاء والفناء والموت. تقول عبلة، الساردة الثانية للرواية: «لن يسعفني الطَرق كملتاثة حقيقية على أزرار الكيبورد، فالمشاهد تأتي كاملة ثم سرعان ما تغيب في درجة من درجات هذا البياض». البياض هنا أشبه بالموت الذي يخفي كل ما هو حي. يخفي المشاهد كلها تماماً، كما يصبح بياض المشيب علامة على انتهاء الشباب. وعندما يوصف البياض بالساخن أو توصف الصاعقة بالبياض نصبح أمام زحف مدمر. وهو تدمير يتجاوز الخارج إلى الداخل – داخل عبلة – وينعكس على رؤيتها للأشياء؛ «كنت أتأمل وجهي في المرآة، وشعرت بهذا البياض الساخن المتأجج الذي يتناسل في مخي ويجعلني أرى الناس والتفاصيل وكأنني أراهم خلف ستائر بيضاء» (ص29). في سياق آخر، تفصل الستائر البيضاء في رواية المصادفة بين عالمين: عالم الذات وعالم الآخرين وكما توظف الكاتبة – على لسان عبلة – اللون تقوم أيضاً بتوظيف الرائحة التي تطاردها وشيوع البياض الذي يشبه الكفن وانتشار الرائحة التي تشبه رائحة القبر، يستدعيان تيمة الموت واستدعاء من ذهبوا إليه بإرادتهم: همنغواي، طرفة بن العبد، عمرو بن كلثوم، سعاد حسني، فرجينيا وولف. والنسيان هو درجة من درجات الموت، وهو ما كان يهدد ذاكرة عبلة التي تقف على حافة الجنون ولعنة التهيؤات التي تجعلها تخلط الحقيقة بالوهم وتتطير من كل شيء وكأنّ حالتها تمثّل نتائج القمع الذي تزخر بها الرواية. في حديثها مع أخيها مجدي الذي يعمل في «أمن الدولة»، تذكر الساردة ألوان التعذيب البشعة التي يتعرض لها المعتقلون مثل إلقائهم في أحواض ضخمة ممتلئة بسائلٍ يذيب عظامهم حتى لا يتبقى منهم شيء يُذكَر، أو إجبارهم على ارتداء بدلات رقص حمراء ماجنة وهز أردافهم مثل الراقصات الشرقيات (ص42). وتلمح عبلة إلى القهر الاجتماعي في زيارتها لبعض الأماكن الشعبية حين تتعاطف مع فقرائها إلى درجة أنها تكاد تجهش بالبكاء أمامهم وتظل صورة الدماء معبرة عن هذا القهر الذي تقع تحت وطأته ومجسدة لصورة الدولة الأمنية القامعة وما يمكن أن نسميه بعولمة التعذيب، كما يبدو من حوارها مع بيل الأميركي. وإذا كانت عبلة تمثّل سردية الجنون الذي يكشف الحاضر والماضي بقسوة، فإن سردَ لولا – وهي الساردة الأولى للرواية – يمثل صوت العقل الذي يعبق في الأشياء والظواهر ويحكم عليها ويضيء جوانبها الغامضة. تطرح لولا أسئلتها التي تدفع إلى التفكير في ما يبدو على السطح: «لا أدري لماذا يصرخ مجدي في وجهي هكذا؟ ولماذا يقولون عن عبلة مجنونة؟ من أين يعرفون أنه هو نفسه ليس مجنوناً؟» (ص193). ونلاحظ أنّ لفظة لولا هي تدليل عبلة في اللهجة المصرية، ما يجعلهما أقرب إلى الشخصية الواحدة. ويبدو أن دفاع لولا عن عبلة وتبرئتها من وصمة الجنون التي لاحقت جِدها، شوكت الملواني أيضاً أشبه بدفاعها عن نفسها. وفي سردها لنوبات الجنون التي أصابت هذا الجدّ يظهر الاهتمام بالجانب المعلوماتي في الرواية حين يتحدث هذا الجد عن أيام الأسبوع عند البابليين والفراعنة والتقويم الهجري والسرياني والقبطي، رداً على أسئلة الطبيب التقليدية. نحن إذن أمام أجيالٍ متعاقبة من الجد إلى الحفيد أحمد سامي، وهو أقرب؛ نتيجة عاطفته وضعفه الإنساني؛ إلى الوقوع فريسة للقوى الفاشستية العقائدية، وهو على النقيض من أخيه إبراهيم الذي خرج مع شباب الثوار ليهتف: «فليسقط حكم المرشد». والحقيقة أن الرواية تقدم الرؤى المختلفة لما حدث في مصر بدءاً من الخامس والعشرين من كانون الثاني (يناير) 2011 إلى إسقاط حكم جماعة «الإخوان». ومن ذلك وجهة نظر بيل، الذي يرى أن ما حدث في 30 حزيران (يونيو) 2013 كان مؤامرة لإسقاط الرئيس محمد مرسي (ص125). هذا التباين في الرؤى وطبائع الشخصيات يحقق ما يمكن أن نسميه بالإيقاع الروائي الذي يعتمد على تعدد الأصوات والتكرار الأسلوبي الذي يظهر في قول عبلة: «سحابات من الصفحات تختفي. صفحات ممتلئة بحكايات عن أبالسة حقيقيين. عن فتيات صغيرات. عن ساسة يبنون نوادي فاخرة. عن امرأة مجنونة تسير طوال الوقت». هذا الاستشهاد يوضح ما أعنيه بالإيقاع الأسلوبي الذي يعتمد على تكرار شبه الجملة التي تأتي دائماً في المقدمة. بالإضافة إلى هذا الملمح توظف الكاتبة بعض الرموز كما يبدو من استخدامها للعبة الشطرنج تمثيلاً لصراعات الواقع أو توظيفها لرمزية الثياب حين تتحدث عما يرتديه ضابط الشرطة ورمزية الخطوات الثقيلة التي تطارد لولا من دون أن ترى صاحب هذه الخطوات؛ في إشارة إلى الرعب الذي يسيطر عليها، وكذلك توظيف تقنية السينما حين تتخيل عبلة تحول الستارة إلى «ما يشبه شاشة سينما يظهر عليها رجل سمين يربت كرشه الضخم» (ص26)، وهي تقنية يسَّرت إمكان الحوار بين الساردة وهذا الرجل المتخيل، وتغلبت على البعدين؛ المكاني والزماني. من يقرأ «بياض ساخن» يدرك أنّ الكتابة عند سهير المصادفة ليست عملاً مجانياً، بل هي فعل إبداعي يسعى إلى تحقيق واقع أكثر نبلاً وإنسانية وجمالاً.

مشاركة :