الشباب جذوة نار، تُحرق غالباً دون الاستغلال الأدنى لها، ولا أقول الاستغلال الأمثل. فالاستغلال الأدنى لفترة المراهقة والشباب يَنتُج عنه مهرة الأخصائيين في شتى العلوم. والطلبة المجتهدون حقا والمثابرون بعد ذلك في عملهم على تعليم أنفسهم وتطوير مهارتهم، مثال على أدنى الاستغلال للشباب. وأما الاستغلال الأمثل فذاك يَنتُجُ عنه أعظم العلماء والمبتكرين ونوادر المخترعين. والطفرة الرقمية من الشواهد الحاضرة المعلومة على ذلك. فعشق بعض المراهقين للكمبيوتر وملحقاته، جعلهم يستنهضون ملكاتهم العقلية في استغلال جلد الشباب استغلالا أمثلا. فسعيد الجَدِ من سُخر له بيئة علمية وصناعية متطورة فأصبح مخترعاً عظيماً، وسيئ الحظ، يعود هكراً أو إرهابياً أو جسداً محطماً في قبو من الأقبية. ولهذا نرى، أن كل الإنجازات العظيمة في الكمبيوتر والإنترنت ونحوها انطلقت من أمريكا وحول جامعاتها، بغض النظر عن جنسيات مُلاكها، كقوقل وغيرها. فالبيئة الأمريكية تصبح رحما للبذرة المخصبة ثم أما حنونا ترعاه صغيرا، ثم أبا قويا يدافع عنه ويحفظ له حقوقه. حتى إذا ما شب وقوى ساعده، وجد السوق اللازمة لاستمرار حياته ولاشتداد شبابه، قبل أن يهرم فيرثه آخر. فدورة الكون من المهد إلى اللحد، وأرث القوي للضعيف الهرم، سُنة لا تقتصر على الأحياء والحياة الفطرية خاصة، بل هي سنة من سنن الله الكونية في كل شي به يستمر الكون، وبه يتطور ويتبدل ويتغير. فماذا عن نبوغ الشيوخ ممن تعدى الأربعينات من عمره ممن ينبغ فجأة بلا سبق استغلال يُذكر لمراهقته وشبابه؟ ما زلت أعتقد اعتقادا ظنيا تأمليا محضا، أن ذكاء الناس متساوي غالبا عند ولادتهم. كتساويهم غالبا في أجسادهم وأعضائهم. والعضو الذي لا يعمل من طفولته، يكسل فيمرض فيموت. والقيود السياسية أو الدينية أو الاقتصادية أو الاجتماعية تُعطل العضو اختياريا عن عمله، كعدم مشي القدم كسلا. وقد يُقيد العضو جبرا، حتى يضمحل وهو في حال شلل، أو يتضخم لاستمرار نموه فيكبر حتى ينفجر. فبخلاف من يستغل مراهقته وشبابه استغلالاً أمثلا، فيظهر نبوغه مبكراً ويتواصل إنتاجه ويتطور، فإن نبوغ الشيوخ من غير سابقة تُذكر، والله أعلم، هو انفجار ذكاء مُتضخم قد طال قيده طويلا، مع بقاء نموه وتطوره. ولهذا لا يعيش النوابغ طويلا. فانفجار الذكاء، إيذانا بنهايته. وقد ذكر الطب العربي عن بعض النوابغ عبارة «أن عقله يأكل نفسه فمات صغيرا أو سريعا». ولعل ندرة أعمال النوابغ، تشهد على هذا. فتجد الواحد منهم يُفجر كتابا أو ابتكارا أو اختراعا عظيما ثم لا يلبث أن يُقال إنه مات أو جُن. فإن سلم حينا، استدركه قومه فقتلوه أو سجنوه أو أخرجوه طريدا شريدا جبرا، أو اختيارا شخصيا بعد أيس وأسف. فالذكاء يَنتُج عنه فكر جديد، والجديد مرفوض حتى ولو لم يكن مخالفا للقديم. فمعارضة التغيير هي من فطر الإنسان التي حافظت على استمراريته، كما حدت أيضاً من تطوره، لتتحقق سنة الله الكونية في التدرج. فبخلاف المخترعين والمبتكرين، الذين غالبا ما ينحصرون في تخصص واحد منذ شبابهم المُستغل جيداً، فإنك تجد النابغة عبقريا في كثير من الأمور. فانفجار ذكاءه ليس مقيداً بتوجه أو محدود بتخصص، فتراه يضرب بفكره يمنة ويسرة. ولعل هذا مما يُعجل عليه بالنقمة من مجتمعه فلا تجد له مؤازراً، فيكثر حساده، فيعجلون به للفناء سريعا، ثم يُقال جُن الرجل أو مات. وشواهد ذلك كثيرة ظاهرة عبر المجتمعات والعصور، لا يتسع المقام لها.
مشاركة :