الفكرة الحية تتطور، إما بالنقاش أو المراجعة، وتواجهها المعوقات والتحديات فتقفز فتتغير؛ لتصبح خلقًا إبداعيًّا آخر. فسبحان من خلق الإنسان ضعيفًا. فيستحيل أن يصل الشخص أو المجموعة للفكرة المثلى إلا بعد أن تمر بطريق التطور والتغير. وقد تصبح حتمية التطور للفكرة إشكالية عند الشخص؛ فتمنعه من إنجاز عمله؛ فكلما راجعها وجد مجالاً للتحسين أو ثغرة للترميم، أو يجد عائقًا يقفز به إلى مستوى أعلى؛ فيضطر لتغيير كل شيء. وأنا أعاني من هذه الإشكالية لحد الإعاقة، حتى أصبحت لا أراجع المقال أو الرسالة أو التغريدة. فبالإضافة للتسويف الناتج من معرفتي بأن الكتاب لن يظهر إلا بعد مماتي، فقد تسببت هذه الإشكالية في أن أهجر كتابي الذي وعدت به سنتين تقريبًا؛ فقد أعدت كتابته بالكامل ثلاث مرات قبل الهجران. ولا أراجع شيئًا إلا وأبدل وأغيّر وأضيف كثيرًا. وبسبب فوضويتي المرضية تراني أجلس جلسة فأكتب فيها عشرات الصفحات المليئة بالطروحات الجديدة، ثم أنقطع أيامًا أو أشهرًا، تضيع فيها النسخة التي عدلت عليها؛ فما أكثر النسخ عندي. وهذا حصل لي حتى أثناء تصميمي نماذج التمويل المختلفة؛ فلقد صممت نموذجًا رائعًا، ثم اتبعت مسارًا آخر بدا لي؛ تأملت فيه نتيجة أفضل؛ فانتكست فيه كثيرًا عن سابقه، وقد نسيت تمامًا الذي سبقه، لا أذكر إلا كالحلم، وكأنني توصلت لنتائج أفضل. فما وعيت إلا ومعاذ - وكان يراجع عملي - يلومني على الانتكاسة؛ فلولاه لما دريت عن ذاك التصميم، ولضاع مع مئات محاولات التصاميم الأخرى. وقد أرسل لي عبر تويتر بعد عودتي إليه نوابغ سعوديون، يحملون الهم، فعرضوا عليّ مساعدتهم في المراجعة وتحدي الطرح والترتيب والتبويب. فالكتاب فيه من فوضى التشعبات والتداخلات في أصل كتابته، مضافًا إليه التعديلات الكثيرة التي قد طرأت عليه. فأرسل لي أحدهم - وهو نايف الأدهم - هذا التقييم الموجز للكتاب، رأيت عرضه في مقالي اليوم، فأترككم معه: «إن الكتاب بصفحاته هذه الأربعمائة أو الخمسمائة، يفتت 1300 عام من التراكمات الخاطئة، التي غلفت كل مجالات العلم الشرعي وحقائقه العلمية والبسيطة في آن واحد. تراكمات باتت كجبال من الحديد، تمنعنا تمامًا من الوصول لحقائق العلم الشرعي، التي رغم بداهتها التي لا نراها أبدا. هذا الكتاب وبطريقة عرضه الذي من هول بساطته تكاد تكذب ما وصلت له نتيجة الرؤية التي يراها الكتاب. لا لأنها غير صحيحة، بل لأنك مع إيمانك بأفكاره البديهية والبسيطة إلا أنه وفي الوقت نفسه ستضطر إلى أن تتخلى عن 1300 عام من الآراء الخاطئة التي باتت تشكل الآن كل معارفنا الإسلامية والشرعية ومداخل النظر فيها. هذا الكتاب لا يقدم إعادة صياغة وتصحيح للمنظور الربوي في الإسلام، بل لإعادة توظيف منطق العلم الشرعي كله، ويعيد تصحيح طريقة رؤيتنا الخاطئة لأصول استنباط نصوصه. رؤية بسيطة واضحة، قد تراكمت فوقها عشرات المعتقدات، التي صرنا نحسبها هي الحقيقة، كعقيدة مثبتة ومجمع عليها. هذه الحقيقة التي كنا نظنها نتجت عندنا بسبب أن كل من ناقش مسألة، حتى الصادق منا في بحثه عنها، كان يدخلنا لها من الأبواب الخاطئة للبحث. بنظري، إن الكتاب - وبمنطقيه فطرية ملتزمة أشد الالتزام بنصوص الوحي، من كتاب وسنة، كدستور لها - يقدم آليات جديدة لنقاش العلوم الشرعية برمتها: التفسير، الحديث، الفقه، وحتى التاريخ وعلم الاجتماع. هذا الكتاب في نظري يفتح بابًا شاسعًا لنا نحن المسلمين أصحاب رسالة أمية بسيطة في إعادة النظر، بمنظار الوحي المجرد، للأمور والأحداث بتفسيرها من خلال الحقبة والحياة المحمدية، وحسب مفهومها في حينها، لا كما حسبما قرأناها وعلماؤنا من خلال إسقاط مفاهيم زمننا على تلك الحقبة وأحداثها، ثم قررنا مقاصدها. فمن خلال ذلك الكتاب يصبح الربا - وهو موضوعه الرئيسي - شيئًا صغيرًا جدًّا، ولا شيء يذكر أمام ما يفتحه لنا وبشكل منطقي وعلمي من آفاق تمتد لعلومنا الشرعية الأخرى كافة. هذا كتابك يا دكتورنا، ويعلم الله أنني لم أجامل بكلمة. ويحتاج فقط إلى وضع أهداف شارحة تسبق كل فكرة؛ لتزيد الفرصة من استغلال قوة حججها حتى لتحصيل فوائد شخصية. وهذه تحتاج إلى جلسة معك مطولة لمراجعة جدية ومتقنة، وإعادة ترتيب المواضيع والأبواب. وهذا صلب ما يحتاج إليه الكتاب لا أكثر من ذلك».
مشاركة :