قبل يوم واحد، من احتفال المسلمين في أنحاء المعمورة، بعيد الفطر السعيد، بعد أن من الله عليهم باتمام صوم رمضان، عاود الإرهاب شن ضرباته، في معقل الإسلام، ومحط الوحي الإلهي، ومدينة الرسول الأعظم، المدينة المنورة، قريبا من المسجد النبوي، ومقابر الصحابة رضوان الله عليهم. حدث ذلك حين أقدم إرهابي على تفجير نفسه، متسببا في ارتقاء أربعة شهداء من رجال الأمن وجرح خمسة آخرين. وبهذا العمل الإجرامي الجبان، سقطت ورقة التوت، وتكشف القناع المزيف للإرهابيين، ولم تعد تنطلي على عاقل فريتهم، بأنهم بجرائمهم البشعة والمروعة إنما يدافعون عن الإسلام. ولم يعد لكلمة التطرف من معنى، فليس هناك كفر وزندقة أكثر من التعدي على حرمة المسلمين بالمساجد أثناء تأديتهم صلواتهم، وهم يرفعون أيديهم بالدعاء، متجهين صوب الكعبة المشرفة. وكيف يجرؤ من ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله، التعرض بالتفجير بالمسجد النبوي، مسجد الرسول الأعظم. صحيح أن للإرهاب سوابق عديدة، في بلادنا، للتفجير بالمصلين بالمساجد، لكن هذه هي المرة الأولى، التي يستهدف فيها الإرهاب بالتفجير المدينة المنورة. هذا الحدث الإجرامي، يطرح أسئلة عديدة حول أهداف الإرهابيين ومن يقف وراءهم. لم يعد منطقيا نسبة هؤلاء للإسلام السياسي، رغم التحفظ الكبير على هذه التسمية، لأن الإسلام لا يمكن تجزئته وتصنيفه. ومنطلقه الذي حرض عليه دائما هو التسامح والسلام، وهو الدين الوحيد الذي يقابل فيه الإنسان أخاه بتحية السلام والدعاء بالرحمة. والحق يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، في القرآن الكريم بالقول: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين». تجاوز هؤلاء القتلة كل الخطوط الحمر، وباتوا فئة باغية، تدفع بالابن إلى قتل أمه وأبيه وأشقائه، ولم تعد تستثني من جرائمها صديقا أو بعيدا. بل إنها لم تستثن أماكن العبادة والمستشفيات، والأسواق، ومراكز التجمعات البشرية. فأين هذا السلوك من الإسلام ومن عقيدته السمحاء. لقد جاء تفجير المسجد النبوي، متزامنا مع تصاعد عمليات الإرهاب في منطقتنا، والساحة العالمية. فقد شهدت المملكة، أحداثا أخرى، تضاف إلى جريمة الإرهاب بالمدينة المنورة، استهدفت مسجدا بمدينة القطيف. وقبلها بأيام قليلة شهدت مدينة جدة، اعتداء فاشلا على مقر القنصلية الأمريكية. لكن يقظة الأجهزة الأمنية في حدثي القطيف وجدة، أفشلت تلك المخططات. وقبل هذه الحوادث أقدم توأمان ينتميان لتنظيم داعش، على ذبح أمهما وجرح أبيهما وأخيهما، دون وازع من دين أو ضمير. إن سلوك هؤلاء القتلة، هو أقرب إلى الهستيريا الجماعية، حيث يتم غسل الأدمغة، أو بالأحرى تجويفها، وتوجيهها جميعا نحو اتجاه واحد لا غير، هو القتل والتدمير، ونشر الفوضى والخراب في أرجاء المعمورة. إنها ثقافة الموت تحارب الحق في الحياة والخير والجمال. لم تكن الحوادث الإجرامية الأخيرة التي أخذت مكانها، سوى حلقة في سلسلة طويلة، طالت مؤخرا، بلدانا عربية وإسلامية، شملت بغداد واسطمبول والبحرين وبنجلادش والقاع بالأردن. وفي الكويت أعلنت الحكومة عن إلقاء القبض على خلية إرهابية، كانت على وشك تنفيذ عمليات تفجير وتخريب. هذا من غير الحديث عن الهجمات المستمرة للإرهاب، في مصر وليبيا والعراق وسوريا واليمن وتونس. وشكلت دليلا صارخا على عجز المجتمع الدولي عن ايجاد حلول عملية وناجحة لاقتلاع هذه الظاهرة من جذورها، رغم الدماء الغزيرة التي سالت في معظم بلدان العالم، بسبب تغول ظاهرة الإرهاب واستفحالها. ففي كل حدث إرهابي، هناك شهداء وضحايا ومصابون، ودمار وخراب. وقد تحول الإرهاب منذ مطالع هذا القرن، إلى ما هو أقرب إلى حرب عالمية، لا تستثني من أجندتها أية زاوية من زوايا الكرة الأرضية، ولا تستثني أحدا من مخططاتها، بما يفرض جديا على المجتمع الدولي، وبشكل خاص على العرب والمسلمين، أن لا يقفوا عند حد المؤازرة اللفظية، واستنكار الحدث، بل الانتقال إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. فما هو مطلوب في هذه المواجهة يجب أن يتخطى لغة أضعف الإيمان، ذلك لأن أمن الجميع مهدد بالخطر، كما استفحلت هذه الظاهرة. فأجنداتها، كما أشرنا، لا تستهدف جنسية محددة، أو طائفة أو قومية أو دين. فهي تضرب الجميع بشراسة وبطريقة تبدو عبثية في أدائها وأهدافها، لكن نتائجها هي تدمير أوطان وتذويب هويات. وهي من غير شك، تهدر جهود المجتمعات، وتدمر اقتصاداتها، وتعيق نموها وتطورها، وتحجب عنها الاستقرار والأمن والسلام. وما دام الجميع بات مستهدفا، في جرائم الإرهاب، فإن المنطقي أن تكون الخطوة الأولى، مراجعة الاستراتيجيات والخطط التي أعلنت إثر حوادث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، بالولايات المتحدة الأمريكية، حين قام تنظيم القاعدة بتفجير برجي مقر المركز العالمي للتجارة، ومبنى البنتاجون بالعاصمة الأمريكية، واشنطن. فإثر أحداث سبتمبر، 2001م، أعلنت إدارة الرئيس جورج بوش الابن حربا عالمية على الإرهاب، كان ينبغي أن تتوجه مباشرة إلى الجماعات الإرهابية في معاقلها. وكانت تلك المعاقل حينئذ محدودة جدا ومعروفة. لكن الخيار في تلك الحرب وقع على أفغانستان والعراق، حيث جرى احتلالهما بقيادة الولايات المتحدة. وقد خلقت حالة الفوضى وانعدام الأمن في أفغانستان وأرض السواد، بؤرا مناسبة، للمجموعات الإرهابية، كي تجد قواعد ثابتة لها في البلدين المحتلين. كما وجدت في الانفلات الأمني باليمن، وانهياره الاقتصادي فرصا سانحة لها لكي تبني لها قواعد ثابتة، في بعض الأطراف والأماكن الأكثر فقرا وتخلفا. وإثر اندلاع ما عرف بالربيع العربي، في أواخر عام 2010، بات واضحا، أن سوريا وليبيا، صارتا موئلا جديدا للجماعات الإرهابية، وسببا في تمددها. وقد أسهم ذلك في تمكين الجماعات الإرهابية من تطوير خططها، وتوسيع دائرة عمقها الاستراتيحي. صار بإمكانها الانتقال من موقع لموقع، تبعا لمقتضيات الظروف والضربات التي تتعرض لها. فوجود قواعد ومراكز ثابتة لهذه المجموعات في أكثر من عشرة بلدان، على رأسها العراق وسوريا واليمن والصومال وليبيا ومالي وتونس ولبنان، وارتباط بعض هذه البلدان جغرافيا، كما في حالة سوريا والعراق ولبنان، مكن الجماعات الإرهابية من المناورة وتغيير مواقعها بسهولة، والهروب، واستخدام تكتيكات تمكنها من تفادي الضربات الجوية التي توجه من قبل قوات التحالف الدولي. أما الإدارة الأمريكية، التي تعهدت بشن حرب عالمية على الإرهاب، فإنها بدلا من المواجهة المباشرة معه، في أماكن تواجده وانتشاره، بقيت تتفرج على داعش، وهي تحتل أربع محافظات عراقية، في ديالى والأنبار وصلاح الدين ونينوى، من غير أن تحرك ساكنا، رغم أن العراق يرتبط بمعاهدة أمنية، تجعل من أمريكا مسؤولة عن أمنه واستقراره. ولم يكن العراق إلا صورة كاريكاتورية، عما يجري من جرائم إرهابية في ليبيا وسوريا واليمن والصومال، والقائمة طويلة... وبدلا من التوجه الأمريكي مباشرة، نحو تطوير آليات الحرب على الإرهاب، اتجهت نحو دول صديقة، ومن ضمنها المملكة تكيل لها التهم في هذا الاتجاه أو ذاك، وتمارس شيطنة مقيتة بحقها، متناسية أننا في هذه البلاد، أكثر من عانينا ولا نزال نعاني من جرائم الإرهابيين. وأن رجال الأمن البواسل، في هذه البلاد الغالية، يسجلون ملاحم البطولة، في تصديهم الشجاع للإرهاب، في جحوره وأماكن تواجده. وفي هذا السياق، لم تبخل المملكة، عن التنسيق والتعاون مع المجتمع الدولي، وتقديم خبرتها وتجربتها. لكن قهر الإرهاب وإلحاق الهزيمة النهائية به، يقتضي من المجتمع الدولي ما هو أكبر من ذلك بكثير. لا بد من مواجهة دولية شاملة للإرهاب، تضيق الخناق على مجموعات التطرف، حيثما وجدت، وتدمير جميع الأوكار التي تلجأ لها. لقد أشرنا إلى اعتماد الجماعات المتطرفة على اختيار مواقع آمنة، تتمركز بها. وغالبا ما تكون بؤر التوتر، هي الأماكن الأثيرة لتمركزها. ولسوء طالع أمتنا، أنها تستأثر بحصة الأسد، في المواقع المتوترة، التي باتت بلدانا عربية عديدة، تشهد ما هو أقرب للحروب الأهلية. طالبت المملكة مرارا وتكرارا، ولا تزال بمراجعة جدية لسياسة محاربة الإرهاب، ومجددا ركزت كلمة خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز، في الخطاب الذي ألقاه معالي وزير الإعلام، بمناسبة عيد الفطر المبارك، على ضرورة محاربة تيارات الغلو والتطرف، ليس فقط من قبل أجهزة الدولة، بل من قبل المجتمع السعودي بأسره. دعا حفظه الله المواطنين للمشاركة الفعلية في مكافحة التطرف، وأن مسؤولية من يرى شيئا يمس البلاد أن يبلغ عنه للدولة. ووعد بأن المملكة ستواصل الضرب بيد من حديد على عناصر الغلو والتطرف، والتي تستهدف عقول وأفكار وتوجهات شبابنا الغالي. ودعا خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان إلى اليقظة، وحماية الشباب من التضليل والخداع، وعدم تمكين قوى التطرف من العبث بعقول الناشئين. وأبان الملك سلمان، أن ما يشهده العالم الإسلامي، من فرقة وتناحر يدعونا جميعا، لبذل قصارى الجهد لتوحيد الكلمة والصف. ومرة أخرى أكد حفظه الله ورعاه أن أكبر تحد يواجه أمتنا، هو المحافظة على ثروتها الحقيقية، وهم شبابها من الغلو والتطرف، ومن اتباع الدعوات الخبيثة المضللة. وفي ذات الوقـت، وأثناء زيارة سموه لجرحى التفجير الإرهابي بجدة، أشاد صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن نايف، بالأعمال البطولية التي قام بها رجال الأمن، لوطن ومقدسات وشعب، وطمأن سموه المواطنين بأن الوطن بخير، وهو في أعلى درجاته، وأن العمليات الإرهابية لن تزيدنا إلا تماسكا وقوة. مرة أخرى انتصر الوطن، على المحنة، وهزم الإرهاب، ولبس الأطفال ملابس العيد الجديدة، وأنشدوا أناشيد العيد والفرح، رغم ما نغص فرحة العيد، من خسارة لأبطال سطروا بدمائهم بداية الهزيمة للفكر الضال. وربما يعاود الإرهاب ضرباته، مرات ومرات، لكنه سيواجه دائما ببطولات رجال الأمن الأشاوس، وبالتفاف شعب المملكة خلف قيادته. وستفشل بعون الله كل محاولات التخريب. إن الباطل كان زهوقا.
مشاركة :