يظل الشعر هو الشعر مهما تعددت أنماطه الفنية وأغراضه الإبداعية ولا تزال الساحة الأدبية في عراك مستمر حول قضية القديم والجديد حيث بلغ الاختلاف ذروته حول النثر والتفعيلة والقصيدة العمودية وهو ما يسبب العداء في محيطنا الأدبي ويولد تنافراً بين العديد من الشعراء إذ إن كل يدافع عن المحتوى والشكل في حين أن الاختلاف في حد ذاته أمر صحي جداً ويسهم في تطوير حركة الشعر ويخلق فيها روحاً جديدة، لكن يجب أن يكون الاختلاف على أسس وقواعد من دون نفي الآخر أو التقليل من شأنه خصوصاً. إن القصيدة التي تستطيع أن تصل إلى الجمهور وتحقق كفاءتها الإبداعية وتثير الدهشة وتهز الشعور وترضي ذائقة المتلقي الواعي بماهية الشعر وأثره ودوره هي القصيدة التي تستحق أن تُقرأ وتخلد في التاريخ، وكل شاعر مبدع في الشعرية العربية في بدايته كان مثيراً للجدل لأنه استطاع أن يكتب الشعر من منظوره الخاص ويقدم رؤية للكون ولعالمه الشعري فقد آثار الشاعر أبو تمام عصره وشغل المتنبي الدنيا وأذهل الوجود أبو نواس بتطابقه مع عصره وصدقه المتناهي الذي خلده في ديوان الشعر العربي، والأمثلة كثيرة في العصر الحديث، فالشاعر أمل دنقل وظف ثقافته التاريخية في خدمة قضايا الأمة العربية وقدم رؤية مغايرة للشعر في زمنه، كما أن الذين قادوا حركات التغيير في بنية الشعر العربي مثل السياب ونازك الملائكة ونزار قباني ومحمد الماغوط تبعهم حركات أخرى حررت الشعر من كل شيء واشتغلت على الموسيقى الداخلية للنص وتحررت من كل القيود وجميع هذه التطورات التي حدثت في محيط الشعرية العربية متكئة على الثقافة العربية والعالمية والإنسانية صنعت تيارات مختلفة فلا يمكن إغفال تجارب الكثير من الشعراء مثل الفيتوري الذي عاش قضاياه الداخلية بما يتوافق مع رؤيته للكون ومن منظوره الخاص عبر فلسفته العميقة وإحساسه بالوجود وتطلعه إلى بناء عالم آخر له دلالاته المجازية، وليس الفيتوري وحده ضمن هذه النماذج، فلدينا في الشعرية العربية قديمها وحديثها ما يستحق التوقف عنده كثيراً. لا أزال أتعمق في قراءة النصوص سواء التي كتبها الشعراء القدامى أو المحدثين بتأن مطلق، وفي الوقت نفسه أحترم كل التيارات، لكنني أقف من كل تيار على الحياد حيث أنظر إلى العمل الإبداعي من منطلق الشروط الفنية التي تحققه دون النظر إلى شخصية المبدع أو انتمائه أو حتى رفضه المطلق للكل، وإيمانه العميق بنفسه وهو ما يدفعني في الوقت نفسه إلى رفض مسألة العراك الدائرة بين الشعراء، لكوني دائماً أرى الشاعر في صورة الكمال ومن هذا المنطلق لا يصح له أن يجرح في الآخر وينفيه في الآن ذاته، لأنني دائماً أتصور الشاعر على أنه طائر جميل يحلق في أرجاء الكون ولا يعنيه مطلقاً سوى التطواف في العوالم الخفية واستشراف الغد والبحث عن اللقطة الأخيرة التي تبرز ملكاته الفردية أما أن يتوقف الشاعر في محطات التجاذب والشد والتعصب الفكري وخلق مشكلات ليست ضمن مهامه الإبداعية فهو شيء لا يصح في نطاق الفن. يجب أن يؤمن الشعراء بدورهم، إذن الشاعر يجب أن يحلق خارج السرب ويترك هذه الأرض المتنازع عليها ويرتفع إلى السماء وليكون غيمة ماطرة إذا أسقطت الماء فإن الأرض تهتز وتنبت الكلأ وبالتالي سيتحقق النماء والخلق والإبداع، ومن ثم استكمال المسيرة الحقيقية لحركة الشعر العربي التي تتطور وتنمو بحكم وجوده الخلاق وفلسفته التي تجعل للحياة طعماً آخر. محمد عبدالله البريكي hala_2223@hotmail.com
مشاركة :