حققت السويد كدولة مواطنة منزلة مهمة في نظام العدالة الاجتماعية، فهي تحتل المرتبة الأولى في العالم في مؤشر الإيكونوميست للديموقراطية، والسابعة في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية. ولكن السؤال لماذا السويد دون غيرها من دول الاتحاد الأوروبي، هل هي مسألة رغبة أم تخطيط أم للقضية جذر تاريخي حكم مسار التطور في هذا البلد ضمن مضمار معين؟ الحق يقال إن التخطيط جاء لاحقاً والأصل في الموضوع هو مسار التطور التاريخي. ولشرح ذلك لا بد من العودة إلى التاريخ، وهذا لا يتعلق بقرن من الزمن أو بفترة تاريخية معينة بل بعدة قرون إلى الوراء، وفي عدة مسارات حتى التجربة الاشتراكية التي مرت بها أوروبا تحكمت بها ظروف معينة، لم تتحكم بالتجربة السويدية لأسباب عديدة من ضمنها الحروب وسأذكرها. أولاً: السويد لم تعش التجربة الاقطاعية بالحدة ذاتها التي عاشتها أوروبا، لا بل حتى أنها تجاوزت نظام العبودية المختلط بنظام الإقطاع الأوروبي، ومع صعود التصنيع ظلت السويد أقرب إلى نظام المشاع التبادلي الزراعي البسيط، بينما شهدت الصناعة تطوراً طبيعياً فيها بعيداً من نظام الطفرة الذي أحدث عملية تحول قسري من الاقطاع الأوروبي إلى نظام الاستغلال الرأسمالي، فالإقطاع لم يتطور في السويد كباقي الدول الأوروبية، وظلت فئة القرويين طبقة من الفلاحين الأحرار في أغلب فترات التاريخ السويدي، كما انتهت أثار العبودية مع انتشار المسيحية ولصعوبة الحصول على العبيد من شرق بحر البلطيق، والعبودية والقنانة ألغيتا نهائياً في السويد بمرسوم أصدره الملك ماغنوس أريكسون عام 1335، حيث دمجت طبقة العبيد القليلة بالفلاحين ومنهم من أصبحوا عمالاً في المدن. ومع ذلك ظلت السويد فقيرة اقتصادياً وامتد نظام المقايضة لأمد طويل، فكان المزارعون من مقاطعة داسلاند ينقلون الزبدة لمناطق التعدين في السويد، ويبادلونها بالحديد، ثم يبادلون الحديد بالسمك في المدن الساحلية التي تقوم بشحنه خارج البلاد. برزت السويد كقوة أوروبية كبرى خلال القرن السابع عشر، ولكن قبل ظهور الإمبراطورية السويدية، كانت السويد فقيرة جداً وبالكاد مأهولة بالسكان. وبرزت السويد على الصعيد القاري في عهد الملك غوستاف أدولف الثاني. ثانياً: مرت السويد كغيرها من دول الأوروبية في مراحل المد الثوري للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، بيد أنها لم تتأثر بمسارات الأحداث العاصفة في فترة الحروب التي أثرت بدورها على اتجاهات التطور تبعاً لموقف الأحزاب الاشتراكية من الحروب، حيث أيدت الكثير من تلك الأحزاب مواقف بلادها من الحروب، كما أن التجربة الاشتراكية السويدية لم تمر بالمسار الدموي الذي نقل الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي نحو البلشفية الشيوعية، وفي الوقت ذاته لم تشهد احباطات التجربة التي حصلت في كل من المانيا وفرنسا على سبيل المثال لا الحصر، والسبب أيضاً يعود إلى أن آخر الحروب التي خاضتها السويد في شكل مباشر كانت في عام 1814، عندما أجبرت السويد النروج بالوسائل العسكرية على عقد اتحاد شخصي استمر حتى عام 1905. منذ ذلك الحين، والسويد في سلام وتتبنى سياسة عدم الانحياز، وكانت السويد رسمياً على الحياد خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، حيث وقعت تحت النفوذ الألماني لفترة طويلة. وفي فترة ما بين الحربين مرت التجربة الديموقراطية الاشتراكية في السويد بمرحلة تطور طبيعي، على خلاف التجارب الأوروبية الأخرى، التي وقعت بين تطرفين تطرف الفاشية من جهة والستالينية من جهة أخرى، والأمر الذي عزز التجربة السويدية هو أن انهيار سوق الأسهم عام 1929 أدى إلى أزمة اقتصادية انتشرت من أميركا إلى مختلف أنحاء العالم، وعرفت بفترة الكساد الكبير، حيث تفشت البطالة وانخفض معيار الذهب، فقررت الحكومات التدخل في الاقتصاد، لتحقيق استقرار بالأسعار، وتعززت رؤية الأحزاب الديموقراطية الاشتراكية المبنية على مبادئ دفع الاستثمارات في البنى التحتية للحد من البطالة، وخلق نوع من الرقابة الاجتماعية على تدفق الأموال، فضلاً عن ضرورة التخطيط الاقتصادي، وفيما باءت محاولات الأحزاب الديموقراطية الاشتراكية بالفشل نتيجة عدم الاستقرار السياسي في العديد من البلدان بخاصة ألمانيا وبريطانيا، غير أن الديموقراطية الاشتراكية واصلت صعودها في السويد كمسار طبيعي، فبرز كارل هايلمار برانتينخ رئيس وزراء السويد في الفترة الممتدة من 1920 حتى 1925، وحصد الحزب الديموقراطي الاشتراكي السويدي غالبية الأصوات في انتخابات 1920، وشكلت الحكومة المنبثقة عنه ما عرف (بلجنة التشريك) التي أيدت الاقتصاد المختلط الذي يجمع ما بين المبادرة الخاصة والملكية المجتمعية، ووافقت اللجنة على تشريك جميع الموارد الطبيعية، من المؤسسات الصناعية والانمائية، والنقل وطرق المواصلات، التي وضعت خطة لنقلها في شكل تدريجي للدولة مع السماح بالملكية الخاصة خارج هذه القطاعات... وانطلقت التجربة بنجاح كبير وبدأت السويد تتحول من دولة فقيرة يهاجر منها الناس نحو الولايات المتحدة إلى دولة نموذجية يهاجر إليها الناس. ومع هذا التطور بدا النظام الضريبي الذي ينظر إليه في العديد من الدول على أنه نظام تقشفي يعاقب الناس، بدا في السويد كنظام ضامن للرفاه الاجتماعي وللقطاع الخدمي الذي اتسع في شكل مدهش، وأي خفض أو رفع في النظام الضريبي سيعادله خفض أو رفع في الرفاه الاجتماعي، فهو نظام متناسب طرداً، على عكس ما يحصل في العديد من الدول مثل الولايات المتحدة، أو كما يحصل في معالجة الأزمة المالية في اليونان، لذا ترى المواطن في السويد يدافع عن النظام الضريبي واستقراره مثلما يدافع عن الخدمات التي تقدمها الدولة له في نظام تكاملي محكم، يعزز دولة المواطنة ويدفع بمعدلات التنمية باتجاه الصعود المتوازن... والحقيقة أن هذا النظام يشبه النظام الاقتصادي الذي ساد في عهود مبكرة من التجربة الإسلامية، والذي توقف مع فترة تراجع الدولة الاسلامية وما مرت به من احداث دامية داخلية وأخرى استعمارية.
مشاركة :