المنفي الذي يمكن أن يحبط مخطط إردوغان الكبير

  • 7/19/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

أولئك الذين يبحثون عن مكان «بعيد عن كل المتاعب» في الولايات المتحدة من غير المرجح أن يجدوا مكانا أفضل من البوكونو، وهي منطقة في ولاية بنسيلفينيا تمتزج فيها الجبال والغابات والبحيرات والأنهار، وتقع في منتصف الطريق بين نيويورك وواشنطن. يأتي الناس إلى هنا لينسوا العالم، ويستمتعوا بشلالات المياه في بوشكيل، والصيد في بحيرة والينبوباك الخلابة، أو الخضوع لدروة «استشفاء» في أحد منتجعات المنطقة الكثيرة. البعض يأتون إلى هنا للاختباء أيضا، ومن هؤلاء شخصيات عصابات من روايات الإثارة والغموض لـهارلان كوبين وجاك هيغينز. ومع هذا، فمؤخرا جدا، بات هذا الركن من «الجنة» الأميركية، بيتا لشخص هارب من نوع خاص يريد أيضا أن يختبئ عن أنظار أعدائه، بينما يواصل الاتصال مع «شبكة» أصدقائه، ومساعديه وأتباعه في أنحاء العالم. هذا الوافد الجديد، وبعد صار مقيما هنا منذ عام 1999، هو محمد فتح الله غولن، الرجل الذي يحمله الرئيس التركي رجب طيب إردوغان المسؤولية عن قيادة الانقلاب الفاشل في أنقرة يوم الأربعاء الماضي. ظاهريا، لا يعدو غولن أكثر من كونه «الزعيم الروحي» لخيط من الجماعات غير الرسمية التي تشكل معا ما يسمى حركة «الخدمة». سبب وجود الحركة، كما ورد عن غولن في بعض من كتاباته، هو أن يثبت أعضاء «الخدمة»، التي توصف كذلك أحيانا بـ«الجماعة» أنهم مسلمون صالحون، بوضعهم أنفسهم في خدمة المجتمع بوجه عام. هكذا تعبر عن هذا أحد قصائد غولن المفضلة: «ما العبادة إلا خدمة الناس، ليست بالسبحة ولا السجادة». ولهذا فإن حركة «خدمة» التي يقودها غولن شبكة عملاقة من الشركات التي تتركز في تركيا لكن لها وجود أيضا في أكثر من 12 بلدا آخر بما في ذلك في أوروبا وأميركا الشمالية. تعتمد الشبكة على خلايا شبه سرية من الطرق الصوفية التركية، مثل البكتاشية والنقشبندية، من دون تبني خطابها اللاهوتي أو الفلسفي. ولد غولن في قرية باسينلر، قرب إرضروم في شرقي الأناضول في 27 أبريل (نيسان) 1941، لعائلة من الدعاة الدينيين الذين عاشوا فترة عصيبة، بسبب النظام العلماني الذي أدخله مصطفى كمال (أتاتورك)، مؤسسة الجمهورية التركية بعد إلغاء الخلافة العثمانية في 1924. كان على من يبحثون عن تعليم ديني لأبنائهم الاعتماد على بضع آلاف من رجال الدين الذين كانوا لا يزالون موجودين، وكان جد غولن واحدا منهم، كما كانوا يتحصلون على أجر زهيد من إقامة الشعائر الضرورية في حفلات عقد القران أو الجنازات. وبحسب حاشية غولن فإن عددا من أفراد عائلته كانوا يريدون له «تعليما حديثا»، يتفق أكثر مع الحقبة الأتاتوركية. ومع هذا، فقد قرر والده أن يسير الشاب فتح الله على تقاليد العائلة التي تعود لقرنين من الزمن، وأن يصبح عالم دين. غير أن قريته، باسنيلر، كانت تفتقر إلى المنشآت المطلوبة للدراسات الإسلامية المتقدمة. وبعد مكوث قصير في إرضروم، انتهى بالمطاف بالصغير فتح الله في إزمير، الواقعة على الطرف الآخر من تركيا، حيث لطالما كان التأثير الأوروبي قويا. وهناك أصبح على معرفة بتعاليم عدد من الطرق الصوفية، وتقارب معهم لفترة من الزمن. غير أن المواجهة التي كان لها أن تغير مسار مستقبله جاءت عندما اكتشف كتابات سعيد نورسي، العالم اللاهوتي، الذي كان طموحه «إحياء» المدرسة الحنفية، وهي أحد المذاهب الإسلامية الأربعة، التي يتبعها غالبية الأتراك. في كتابات نورسي اللاهوتية، كانت الفكرة الأساسية هي «النور»، بمعنى أن الهدف الرئيس للإيمان هو بث النور في ظلمة الجهل البشري وهدي الناس إلى «الصراط المستقيم». تستعير المدرسة النورسية بعضا من مصطلحات الصوفية من دون أن تبتعد عن الإيمان باتجاه الفلسفة، كما حذر الإمام أبو حامد الغزالي قبل ألف عام. وبحسب كل الروايات، كان غولن بين خيارين: أن يصبح مفكرا دينيا أو زعيما سياسيا اجتماعيا. جرب الرجل كلا الخيارين. نظم مئات القصائد شبه الفلسفية، يمكن وصف أفضلها بـ«المتوسطة» في أحسن الأحوال، كما نشر عددا من المقالات اللاهوتية التي تتكون في معظمها من عملية إعادة طرح متعجلة للنصوص الحنفية الكلاسيكية. وبحلول ثمانينيات القرن الماضي، كان لا بد لغولن أن يدرك أن مستقبله كعالم دين قد لا يكون مشرقا كما كان يأمل من قبل. ومن ثم، فقد غير مساره بحشد مواهبه القيادية التي لا جدال عليها. ومن خلال عقد صلات وثيقة مع مجموعة متعاقبة من الأحزاب الإسلامية، بداية من حزب الرفاه بقيادة نجم الدين أربكان، نجح في تأمين ما يكفي من النفوذ والاحترام ليجتذب الاهتمام، لكن حافظ على مسافة كافية لا يتعداها، عندما فشلت التجربة بالكامل. تبنى التكتيك نفسه في مواجهة حزب الفضيلة الذي أعقب حزب الرفاه، فيما استمر في بناء شبكة نفوذه الاقتصادي والسياسي والعسكري. وبعد أن أقام في إسطنبول، أكبر مدن تركيا وعاصمتها الثقافية والاقتصادية، اتجه غولن إلى رجب طيب إردوغان، وهو من المتعاطفين مع الإخوان المسلمين، ونجم صاعد في جيل جديد من «المهندسين المسلمين». يصغر إردوغان غولن بـ13 عاما، وبحسب معظم الروايات، كان يعتبر الداعية الأكبر سنا بمنزلة «الأخ الأكبر والمعلم». وعلى رغم حاجته إلى دعم غولن لبدء مسيرته، فلم يكن إردوغان تابعا لأحد. كان باستطاعته أن يقف ويقاتل بمفرده، كما فعل من خلال فوزه بمنصب عمدة إسطنبول المهم في 1989، خلفا لبدر الدين دالان الذي كان قد وضع المدينة الرئيسية العظيمة على مسار جديد. ما من شك بأن غولن لعب دورا مهما، وإن كان وراء الكواليس، في تأسيس حزب العدالة والتنمية الذي أصبح أداة إردوغان للوصول إلى السلطة، أولا رئيسا للوزراء، ثم رئيسا بعد ذلك، و كما يأمل الآن أن يكون نوعا من الزعامة العظمى في فصل جديد من تاريخ تركيا. من خلال مظهره كشخصية تترفع عن الاختلافات السياسية، تمكن غولن من توحيد ما يزيد على 12 جماعة وحزبا سياسيا مختلفا لتكوين حزب العدالة والتنمية. كان هو «الراعي الأمين»، الرجل الذي «ليس له أي مصلحة شخصية»، والذي يمكن أن يثق به ويعتمد عليه الجميع. في كل اجتماع كان يكرر لازمته المفضلة: «هدفي الخدمة، لا السلطة». قدم غولن كثيرا من الإسهامات المهمة لتطوير الخطاب الجديد للتيار الإسلامي في تركيا. وكان الإسهام الرئيسي من بين تلك الإسهامات هو قبوله بالعلمانية، وإن كان وفقا للطريقة التي أعاد بها تفسير العلمانية، كان يرى بأن العلمانية الأتاتوركية لم تفصل الدين والدولة، وإنما خلقت مزيجا من الاثنين. ولتحقيق الفصل الحقيقي، كان على تركيا أن تطور «دولة علمانية في مجتمع ديني»، وبالمعنى التطبيقي، لا بد أن يعني هذا استعادة الأوقاف التي صادرتها الدولة منذ عشرينات القرن الماضي، وبحساب الأوقاف الدينية والشركات التي استثمروا فيها على مدار ما يزيد على 8 عقود، فإنها تمثل ما بين 10 و15 في المائة من الناتج القومي الإجمالي لتركيا. ومن شأن إعادتهم إلى «الشعب» في إطار برنامج واسع من الخصخصة، أن يمنح «المؤمنين الصادقين» قاعدة اقتصادية يمكنهم من خلالها تحدي الدولة متى وإذا حاولت تجاوز سلطاتها. تسببت الخلافات حول كيفية توزيع الغنائم أول صدع في العلاقة بين غولن وإردوغان الذي مع نمو نفوذه وتعمق ثقته بنفسه، بدأ يستاء من نعته بـ«صبي غولن». أراد إردوغان أن يستأثر بنصيب الأسد بين القاعدة الواسعة من أنصار التيار الإسلامي، لفصيله هو، وأراد غولن نصيبا مناسبا لأنصاره. وبنهاية التسعينات كان غولن قد بدأ يشعر بالقلق بشأن سلامته الشخصية، وتوصل إلى أن مكوثه في المنفى الاختياري لفترة من الزمن ربما يقنع إردوغان بأن حزب العدالة والتنمية لن ينجح من دون دعم «خدمة». وبالنظر إلى هذا القرار الآن، كان ذلك خطأ من غولن. نادرا ما يعود المنفيون إلى مراكز السلطة، ومعظمهم يموتون في أرض غريبة، بعد أن يكون أنهكهم الحنين للوطن. كما وكان لغولن دور مؤثر في تشجيع إردوغان على اللعب بالورقة الأوروبية كوسيلة لتبديد المخاوف الغربية من أسلمة السياسة في تركيا، كذلك فإن سلسلة من المبادئ «التقدمية» في ظاهرها، التي تنسب الآن لإردوغان، في أمور كـ«المساواة بين الجنسين» و«الحرية الثقافية للأقليات»، تأتي مباشرة من كتابات غولن الأولى. كذلك ساهم غولن في التخفيف من حدة صورة الحركة الإسلامية التركية ككل من خلال تكوين علاقات مع زعماء الطوائف الدينية الأخرى. التقى البابا الراحل يوحنا بول الثاني، وكتب زجلا عن «القيم المشتركة». كما صار غولن صديقا مقربا لرئيس طائفة اليهود الشرقيين في إسرائيل، الحاخام إلياهو بكشي دوران، وكان الاثنان يهاتفان بعضهما في كثير من الأحيان، ويتبادلان النكات والأفكار وحديث النميمة. وساعد اتصالات غولن مع الكنيسة الأرثوذكسية في تخفيف حدة المعارضة اليونانية لمحاولات تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي. ومع هذا، فلقد كان حلف غولن - إردوغان يتجه للدخول في أزمة؛ إذ لا يمكن لشخصيتين تبلغان في حجم اعتدادهما بنفسيهما، جبال إيفرست، أن تتعايشا لوقت طويل. يمكن لأربعين درويشا أن يناموا على حصيرة واحدة، لكن لا يمكن لقارة واحدة تسع لزعيمين، كما يقول المثل التركي. بدأ إردوغان يفكر في أن غولن فاز بالصفقة الأفضل، وجنى كل مكاسب السلطة، وإن كثيرا منها موزع بين أتباعه، لكنه لا يحمل معه أي قدر من عناء المعارك السياسية الشرسة. جاءت نقطة اللاعودة فيما كان علاقة صداقة جميلة، وإن كانت مضطربة أحيانا، في 2012، عندما بدأ إردوغان تشكيل «مشروع إسطنبول الكبيرة». سيكون هذا أكبر مشروع حضري من نوعه للتجديد وإعادة التأهيل في القرن الجديد في العالم. وتتفاوت التقديرات لحجم الأعمال التي يمكن للمشروع توليدها ما بين 120 إلى 250 مليار دولار. وبالنسبة إلى غولن، فقد كان أمرا لا يمكن التسامح معه بالطبع، أن يذهب كل هذا لفصيل واحد داخل الحركة الإسلامية، فيما ينتهي المطاف بالجيش التابع له من أعضاء «خدمة» إلى الحصول على الفتات، إذا حصل على شيء من الأساس. تغير توجه غولن تجاه إردوغان ببطء من «الانتقادي الودي» إلى «الانتقادي الخبيث»، وبحلول 2013، صار «الانتقادي العدائي». يزعم المعجبون بتجربة غولن أنه «رجل يفتقر إلى المعلومات الدقيقة». وهو كذلك بالتأكيد، حتى ولو كان يمتلك مصادر في كل ركن وزاوية من جهاز الدولة، وخاصة المخابرات السرية. بحلول صيف 2013، جاء رسل سريون من أنقرة وإسطنبول بـ«ملفات زرقاء» إلى مقر إقامة المرشد في سايلورسبرغ، كانت الملفات الزرقاء تحتوي وثائق بخصوص طيف من الممارسات الفاسدة المزعومة على صلة، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، بإردوغان أو أسرته. في لحظة ما، ورغم أنه أنكر ذلك مرارا، بدا كأن غولن قرر أن الوقت قد آن لـ«فضح معارضة» إردوغان على أمل إبعاده عن السلطة. حدث في ذلك الوقت أن تسرب بعض هذه «الملفات الزرقاء» إلى وسائل الإعلام، ما أضعف موقف إردوغان مع استعداد حزب العدالة والتنمية لانتخابات عامة صعبة. خلص إردوغان، سواء كان محقا في هذا أم جانبه الصواب، إلى أن معلمه وصديقه السابق أعلن الحرب عليه، ومع هذا، فإردوغان ليس إلا مقاتلا، ولهذا دشن في 2014 حملة تطهير واسعة للعناصر الموالية لغولن في كل قطاعات الجيش والقضاء والخدمة المدنية، بل استحوذ على عدد من الشركات، بما في ذلك المنافذ الإعلامية التي كانت تابعة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لحركة «خدمة». كان أكثر ما يخشاه إردوغان، وربما ما زال يثير مخاوفه، هو أن ينشأ تحالف بين معسكر غولن وأنصار الحركة القومية التركية والأتاتوركيين لوقف صعوده نحو السلطة المطلقة، إن لم يسقطوا نظامه فعليا. ولهذا كان يستعد لموجة ثانية من التطهير في أغسطس (آب)، لكن الانقلاب الذي نفذه مجموعة من الهواة أجبره على التعجيل بخطط التطهير هذه. أراد غولن نصيبا، لكنه لم يحصل على أي شيء، ويريد إردوغان التركة بالكامل، وقد ينتهي به المطاف وقد خسر كل شيء أيضا.

مشاركة :