قد يذكر القراء أنني كتبت مقالاً في «الحياة» قبل ثلاثة أشهر بالضبط من المحاولة الانقلابية الأخيرة التي حدثت في تركيا وكان عنوانه «هل يمكن أن يحدث انقلاب عسكري في تركيا؟» ولعله كان الأحرى بي أن أقول، هل يمكن أن ينجح انقلاب عسكري في تركيا، لأن لا أحد كان يتصور إقدام البعض على مثل هذه المحاولة من دون أن يكون لذلك ثمن باهظ. قلت في نهاية المقال المذكور: أقول ذلك لأنني أعلم أن من يعترض على الوضع القائم إلى درجة الكره، لا يرى الحل في انقلاب يغيّر هذه الأوضاع، وأنه سيكون أول من يتصدى لمحاولة من هذا القبيل. لذلك، أدعو من يراهن على هذه الاحتمالية إلى أن يكفّ عن التبشير بذلك لسبب بسيط، وهو أنه لا يفهم الذهنية التركية الحالية بعد عقود رأى الأتراك فيها بأم أعينهم رؤساء سابقين ما زالوا على قيد الحياة ويتم الإنصات إلى تجاربهم وآرائهم. رؤساء ليسوا في أقبية السجون أو في مقابر مجهولة. لم يكن ما ذكرته من قبيل التكهن وإنما لمعرفة سابقة بما يشعر به المواطنون الأتراك، من الاحتكام الى المعايير الديموقراطية وسد المنافذ على المحاولات العبثية للإجهاز على هذه المعايير. من هذا المنطلق نزل الشعب التركي الى الشارع بمجرد أن ناشد الرئيس المنتخب جماهير الشعب بذلك وناشد الآخرون مثل الرئيس السابق ورؤساء الأحزاب السياسية من اليمين الى أقصى اليسار، وتبعتهم في ذلك جميع القنوات التلفزيونية والتي كان البعض يصنفها بأنها معادية للحكومة والنظام. لاحظ الصحافيون في الوطن العربي شأنهم في ذلك شأن الإعلاميين في الدول الغربية أن جميع أطياف الشعب قد نزلوا الى الشوارع والميادين وهم لا يحملون صور زعمائهم وقادتهم بل أجمع الكل ومن دون تنسيق مسبق على أن يحملوا العلم التركي فقط، وهكذا كان. ويتردد الآن الحديث عن مطالبات جماهيرية بإعادة حكم الإعدام الذي ألغي في نهاية القرن الماضي من قانون العقوبات للتناغم مع معايير الاتحاد الأوروبي الذي تريد تركيا الانضمام إليه، وقد تم فعلاً تعديل الكثير من القوانين في العقدين الأخيرين من أجل ذلك وأهم نتيجة لذلك كانت ترسيخ مبدأ سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، ولكن الكثير من القادة لم يربطوا ذلك بضرورة الالتحاق بركب الاتحاد الأوروبي حين قالوا أنه في حال تعذر انضمام البلد الى الاتحاد، فإن معايير حقوق الإنسان ستبقى سائدة ومعايير كوبنهاغن التي تحكم نظم الاتحاد الأوروبي ستكون معايير أنقرة فقط، أي أن الاسم سيتغير فقط من دون أن تتغير المفاهيم. ولكننا يجب أن نعلم أن تركيا يجب أن تنسى موضوع الانضمام الكامل للاتحاد الأوروبي إذا أجاز البرلمان التركي تعديل القانون للسماح بإعادة حكم الإعدام الى النظام القضائي التركي. لقد واجهت بعض الأنظمة في هذه المنطقة الشعب بالدبابات بينما واجه النظام التركي الدبابات بالشعب، وأتصور أن ذلك هو منتهى الرقي. أذكر في هذا المجال أن رئيس تحرير هذه الجريدة طلب مني ترتيب لقاء صحافي مع الرئيس السابق للجمهورية التركية عبدالله غل قبل انتهاء ولايته بسنين، وقد تحدثنا مع الصديق الزائر عن محاور اللقاء قبل أن ندخل الى مكتب الرئيس لإجراء اللقاء وكنت أنا من يترجم بينهما باللغتين العربية والتركية. فاجأني رئيس التحرير بسؤال وجّهه الى الرئيس، وهو ما لم يسبق أن حدثني عن نيته بتوجيهه بخاصة وقد كنا في خضم ما كان يعرف آنذاك بالربيع العربي. كان السؤال: يا فخامة الرئيس، ماذا سيكون موقفك إذا استيقظت غداً والجماهير في الشارع تهتف بشعار «الشعب يريد إسقاط النظام»؟ ضحك الرئيس وأجاب فوراً بما جعل رئيس التحرير يضحك عالياً قائلاً له: يا سيدي نحن ننعم بنظام ديموقراطي، فلا أستطيع أن أقول لك ماذا يمكن عمله إذا خرج الشعب الى الشارع طالباً التحول من الديموقراطية الى الديكتاتورية. لعل صديقي يذكر ذلك وهو يرى على شاشات التلفزيون جماهير الشعب التركي تنزل الى الشوارع والميادين، لا لإسقاط النظام بل للدفاع عنه حتى ولو لم يكن موافقاً على بعض سياساته، لأن الخيار الديموقراطي هو الذي يجب أن يسبق كل المفاهيم. * كاتب تركي ehurmuzlu@gmail.com
مشاركة :