«المثالية» بين اللغة والفلسفة والأدب... والإسلام - إسلاميات

  • 7/21/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

ما المثالية؟ وكيف يكون الإنسان مثاليا؟. سؤال شغلتني الإجابة عنه كثيرا، وكان لا بد من البحث والقراءة في معجمات اللغة، وفي ما كتب عن «المثالية في الإسلام». وكذلك في بعض الكتب الشارحة لمدارس الفلسفة الغربية، القديمة منها، وتلك التي أسسها أبو الفلسفة القديمة سقراط، وثبت دعائمها تلميذه أفلاطون في جمهوريته الفاضلة الــ «يوتوبيا» وفي محاوراته المشهورة التي سجل فيها أفكار أستاذه سقراط؛ لأن الأخير لم يكن يكتب تلك الأفكار، أو الحديثة التي أرسى دعائمها ديكارت على منهج (الكوجيتو) القائل: (أنا أفكر، إذا أنا موجود)، ودعمها بركلي، ثم شيدها ايمانويل كانت، هكذا كما ورد في تصنيف (رواد المثالية في الفلسفة الغربية) للدكتور عثمان أمين. جمهورية أفلاطون ولقد أجهد أفلاطون نفسه في إقامة دعائم المثالية في جمهوريته التي تمثل عالم المثل «اليوتوبيا» لديه على تقسيم الناس إلى طبقات ثلاث ؛ فجعل الفلاسفة أصحاب الطبقة الأولى (طبقة الذهب)، وأما الجنود فهم أصحاب الطبقة الثانية (طبقة الفضة)، وهبط بأصحاب المهن والإنتاج والعمل الميداني ؛ فجعلهم أصحاب الطبقة السفلى (طبقة الحديد)!، فإذا كان يحسب لأفلاطون أنه رفع من شأن العقل والتأمل العقلي، إلا أنه كان حالما طبقيا! فأي عالم مثل هذا؟ ذلك الذي يصنف طاقة الأمة ومصدر وأدوات إنتاجها، ومنبع اقتصادها (العمال) في الطبقة الأخيرة في مجتمعه، أو في جمهوريته الخيالية المزعومة؟ وأية مثالية هذه تلك التي يأنف واضعها من الطبقة الكادحة ويطلق علي أصحابها طبقة (العبيد)؟ وأي عالم مثل هذا الذي يصنف صاحبه الجند في الطبقة الثانية (طبقة الفضة)؟، وهم الذين يحرسون حدود البلاد من الأعداء بالخطط الحربية، والفكر العسكري المستنير الناضج؟، فهل المفكرون والفلاسفة هم الذين يخططون للمعارك الحربية لصد العدوان، والذود عن الأوطان؟ فالذي لا شك فيه أن قادة الجيوش هم المنوطون بهذا العمل فكرا وتنفيذاً، وهم بذلك لا تقل منزلتهم عن أهل الفكر والتفلسف (الطبقة الأولى). نعم، كان أفلاطون حالما طبقيا ولذلك لم يلق عالمه المثالي الخيالي الذي نادى به تواجدا في عالم البشر على الأرض. الاعتدال والشمول وننتقل إلى «المثالية» في الإسلام، وقلنا آنفا: إن قوامها - كما يقول د. زيدان - الاعتدال والشمول. والاعتدال هو الوسطية التي نعت بها الله – تعالى – الأمة المسلمة ، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا )، إنه التوسط بين الإفراط والتفريط. التوسط بين حالين في كم، أو كيف ، أو تناسب. ويضيف الدكتور زيدان : (ويقصد بالاعتدال: عدم الإفراط والتفريط في أي شيء ، وإعطاء كل ذي حق حقه)، ويدل على ذلك قوله تعالى: «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما». وكذلك قوله - عز وجل - : «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا». هكذا، لا إمساك ولا إسراف، وأيضا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم: «خير الأمور أوسطها». أما الشمول: (الركيزة الثانية في المثالية) فكيف يتحقق؟ بالتناسق ؛ فيجب على المسلم التناسق في جميع شؤونه؛ فلا يقبل على جانب واحد، أو عدة جوانب ، مؤديا إياه على أكمل وجه ممكن ، مهملا في ذات الوقت الجوانب الأخرى!، كمن يؤدي الصلاة فرائضها ونوافلها، ثم يتهاون في أمر الزكاة مثلا ، أو كمن يقوم الليل ، ثم ينام قبل صلاة الصبح، فيصليها بعد طلوع الشمس، فهذا سلوك مرفوض، ولا تتحقق به المثالية، فلا بد إذا من التناسق، وأن يضرب المسلم في كل أمر مشروع بسهم حسب إمكاناته وقدراته، دون مغالاة، أو تشدد، وبهذا الاعتدال والتوسط والتناسق في العبادات تتحقق المثالية في الإسلام. المنهج السماوي وبهذا الفهم الصحيح للإسلام تحققت للمسلمين المثالية والنموذجية الحقيقية في الحياة ، وطبقها الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - وتلقاها عنه أصحابه من الرجال والنساء على حد سواء ،لا كما تخيلها أفلاطون في جمهوريته المثالية التي من المحال أن تطبق في عالم الناس والأرض . وبهذا المنهج الوسطي بلغ المسلمون القمة في عالمي الروح والمادة ، فيقول الكاتب أحمد أمين في سفره ( فيض الخاطر) : لقد تحمس المسلمون للدين ،ولكن لا كما يتحمس الرهبان في الصوامع ، إذ هجر الرهبان دنياهم لدينهم، أما المسلمون فلم يمنعهم إخلاصهم لدينهم من تحسين دنياهم ، فهم يدينون ولا ينسون نصيبهم من الدنيا ، يتاجرون ويصلون ، ويملكون المال ويزكون ، ويعملون للدنيا كأنهم يعيشون أبدا ، ويعملون للآخرة كأنهم يموتون غدا. وهكذا أسست الفلسفة الأفلاطونية دولتها على التفرقة والطبقية والخيال والأحلام ، ففشلت – وإن كانت تعلي من قدر العقل والتفكير – بينما أقام محمد – صلى الله عليه وسلم – دولته على العدل والمساواة والأفضلية للتقوى ، «فلا فرق بين عربي ولا أعجمي، ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى». وسلمان الفارسي منا آل البيت! وبلال بن رباح الحبشي سيدنا، واعتقه سيدنا أبو بكر، والفرد يؤدي دوره الميسر له داخل المجموع، فلا سخرية ، ولا ازدراء ، فـ (ساق ابن مسعود الدقيقة أثقل عند الله من جبل أحد)!، وبهذا المنهج السماوي القويم تحققت المثالية للمسلمين، وللإسلام التقدم والرقي الروحي والمادي . الواقع المثالي ولقد استطاعت الدعوة المحمدية - القائمة على الاعتدال والتوسط في أمور الحياة من ناحية ، وعلى الدمج بين المثالية والواقعية ، والتوازن بين حاجة الإنسان الروحية والمادية – أن « تنتقل بالمجتمع العربي من مرحلة الرعوية التي نشأ فيها إلى المجتمع المتمدين» كما يرى الباحث البحريني عبد الله خليفة في سفره العظيم (الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الإسلامية ) ، واستطاع النبي محمد - صلى الله عليه وسلم – أن يجعل من القبائل العربية المتناحرة والمتناثرة في صحراء الجزيرة العربية أمة عربية واحدة وموحدة لله ، بعد رد الأصنام إلى أماكنها الطبيعية في الأرض. لقد بقيت دعوة النبي محمد واقعا مثاليا مطبقا على الأرض؛ لأنها تشريع رباني، أما جمهورية أفلاطون فقد ثقل وفشل تطبيقها. إلى هنا أيها القارئ انتهى الحديث، وأود تذكيرك بأنك تستطيع أن تكون مثاليا نموذجيا بالاعتدال والوسطية والشمولية والتناسق في الأمور والعبادات على قدر طاقتك التي منحك الله إياها، فلا تهتم بجانب أو عدة جوانب على حساب الجوانب الأخرى، بل اضرب بسهم في كل أمر مشروع نافع لك ولأمتك على قدر طاقتك، دونما إرهاق أو تعذيب للنفس... من دون إفراط، أو تفريط. * باحث أكاديمي تعريفات لقد ورد في المعاجم اللغوية أن «المثالية مادة» م ث ل «تعني: وصفا لكل ما هو كامل في بابه، فالإنسان المثالي هو: «النموذجي». وعلماء النحو والسلامة اللغوية يقولون: إن كلمة «المثالية»: اسم منسوب إلى (مثال). والمثالية في الفلسفة: مذهب فلسفي يقابل الواقعية بوجه عام، ومن ذلك: المثالية عند (أفلاطون) - الـ (يوتوبيا). وهي في الفن والأدب: ترمز إلى قوة الأخلاق والدعوة إلى الكمال الإنساني ؛ بأن يكون الإنسان غاية أخلاقية نموذجية. و«المثالية» في الإسلام قوامها - كما يقول د.عبد الكريم زيدان- الاعتدال والشمول. الكمال المنشود أعود بك - عزيزي القارئ - إلى السؤال: كيف يكون الإنسان مثاليا ؟... هل يجب على المسلم أن يرهق نفسه، ويؤذي جسده ؟ فيصلي الليل أبدا، ويصوم الدهر ولا يفطر، ويعتزل النساء ولا يتزوج أبدا ؟ ! وهنا يجيب صاحب رواد المثالية، فيقول: «إن الاعتدال المطلوب في الإسلام يرفض ذلك»، والدليل هو موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ثلاثة رهط الذين جاؤوا إلى بيوت أزواج الرسول يسألون عن عبادته... حيث قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر،وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء، ولا أتزوج أبدا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني». على أن الباب مفتوح لمن أراد الاستزادة من النوافل والصالحات، وكل على قدر استطاعته... وعلى ذلك - عزيزي القارئ - «يكون تعذيب الجسد وتحميله ما لا يطيق ليس من مناهج الإسلام ووسائله؛ لبلوغ الكمال المنشود... فالمثالية في الإسلام يمكن بلوغها بنهج معتدل وسير مريح». كما يقول الدكتور زيدان.

مشاركة :