يقدم الكاتب والدبلوماسي اللبناني خالد زيادة في كتابه الصورة التقليدية للمجتمع المديني قراءة منهجية في سجلات محكمة طرابلس الشرعية، وقد حاول من خلال السياق أن يستخلص أسس وعلاقات السلطة داخل المدينة: الوالي كممثل للسلطة العليا، يقبض على النفوذ والمال، من خلال أجهزة تعمل بالكثير من الدقة، ثم الحاكم الشرعي الذي يستمد سلطته من الشريعة ويطبق أحكامها. إن جميع خيوط المجتمع تبدو مجتمعة في يد الحاكم الشرعي أو القاضي، ما تطلب ويتطلب إعادة تقويم لحقيقة الدور الخطير الذي يقوم به في تنظيم الحياة المدنية والحفاظ على سيرها التقليدي، إن السلطات المحلية كانت مرتبطة إلى حد بعيد بالحاكم الشرعي: رجال الدين، مشايخ الحرف، مشايخ الحارات، رؤساء الطوائف، كذلك فإن علاقات هؤلاء بالوالي كانت تمر من خلاله أيضا. يوضح زيادة أن التفاصيل التي تتطرق إليها سلطة الحاكم الشرعي تقود إلى استكشاف الحياة الاجتماعية والقوى التي تتحكم فيها، والقوى التي تسيرها، كما توضح التنظيم الدقيق والمستقر للمجموعات المدينية التي يؤدي تماسكها إلى تصلب بنية المجتمع، والتي لا يمكن أن نتعرف على قوتها الحقيقية إلا من خلال الكشف عن علاقات السلطة وتسلسلها، والملاحظة الأساسية التي يود الكاتب أن يلفت الانتباه إليها هي أن تنظيم المجتمع كان دقيقا إلى درجة ينبغي أن تطرح كل الأفكار التي تنكر هذا الواقع. يقول د. خالد زيادة: بالنسبة للنصوص فإن الأمر يجري على مستويين: مستوى الخطاب الذي تعبر عنه النصوص، ومستوى الواقع العيني نفسه عن الخطاب، لا يدور بمعزل عن الواقع، ومع ذلك فإنه يملك استقلاليته، ولعله يبرز قوته من خلال إعادة تركيب العلاقات وتأكيد النصاب، من هنا كان من الضروري أن يبدأ الكاتب بعرض الخطاب وإظهار حدوده أيضا طالما أنه مصدر رئيسي بين المصادر التي تمكننا من إعادة تركيب أسس السلطة في المجتمع المديني في الحقبة السابقة للقرن التاسع عشر.
مشاركة :