كتبت الناقدة خالدة سعيد مقدمة لـ «الاعمال الشعرية الكاملة» للشاعر كمال خير بك الصادرة حديثا عن دار «كتب» - بيروت. وتضم الأعمال الدواوين: البركان، دفتر الغياب، وداعاً أيها الشعر، مظاهرات صاخبة للجنون، الأنهار لا تتقن السباحة في البحر. هنا نصّ المقدمة: عرفت الشاعر كمال خير بك (1935 - 1980) في أوائل عشريناته. منذ ذلك العمر المبكّر كان يرسم طريقه في مستوى الأقاصي، وجهه الوسيم المجروح عميقاً يعلن عن مساره المهيَّم المتوتّر، ويشير إلى جراح غير مرئية. لم يكن في حياته موقعٌ لغير الجذريّ، ولا في طرقه ما تَغيب عنه الأهداف العليا. وهو بين الخيال المتوثّب ودروب الخطر وحميّا الهيام قاد خطاه. فارسٌ مجنون مُجازِف يقصد المهاوي ولا يتحاشاها. ألَم يكن عنوان مجموعته الأولى «بركان» والثانية «مظاهرات صاخبة للجنون»؟ نفتح كتاباً من كتبه فلا تكاد قصيدة تخلو من هذا الثلاثيّ: الشعر - الموت - الحبّ. وستقود حياتَه محاولةُ التوحيد أو التأليف بين مثلث هيامه. كيف نستعيد اليوم صورته ولا ترتسم في أفقها الكوارث؟ نستعيدها ملوّنة بالدم الذي أريق والآمال التي طُعِنَت، ويحضر شعرُه الذي أضاء هذه المعاني. وقد تميّز شعرُه بالعنف العاطفيّ وتوتّر التعبير، في زمن لا وضوح فيه. أدرك أنّ الحاضر المعقّد المهلهل والمتشابك يحتاج إلى ما هو فوق الشجاعة وما يتجاوز أحلام المثال. ألقى بكلّيّة وجوده في العمل وراهن على الخيارات الصعبة. كان الشعرُ حياتَه الثانية، وكانت له حيوات. لكنّه جازف بحيواته من أجل فكرة عليا، من أجل قضية سترويها الدماء طويلاً. من هنا أنه لا مرآة لروحه الوثّابة أجلى من الشعر. نقرأ شعره في ضوء غيابه الفاجع فتنكشف أسرارُه المتجدّدة. لا يكاد الموت يغيب عن قصيدة. لكنّ الموت عنده يختزن الحياة كما الحياة تُضمِر الموت. والموت في شعر كمال خير بك لم يكن نهاية، ولا كان عقيماً. كان يختزن معاني الولادة والتجدّد كما علّمته أساطير بلاده. هكذا، يحضر الموت في كناياته ورموزه كأفق يجعل الحياة أكثر من حياة. هكذا، أيضاً كانت الصورُ نسيجَ عبارته، لأنّ الصورة وحدها تتسع لهذا التوتّر العالي، هذه الرؤية الفجائعية التي تُبصِر الشعر والحبّ تحت قوس الموت. كان كمال خير بك يعرف أنّ الزمن لا يتّسع للرؤى والتطلّعات كلها، وأنّ العمر قصير والمشروعات هائلة فماذا يفعل؟ لا سبيل إلا أن يوتّر حركته إلى حدّها الأقصى، يوتّر الإيقاع، ويعيش هيامَه الثلاثي في حالة صراع. «أيها الشعرُ وداعاً انتهى عصرُ الكلام المخمليّ وانتهى عهدُ السلام بين جرحي والضمادة» * حتى اليوم كلما تصفحت أطروحتَه حول «حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر» التي تدرس مجلةَ «شعر» وقضايا التجديد والحداثة الشعرية، في شكل خاص، أعجب من ذلك الدأب الطويل المتعمّق المستقصي، ومن التأمل في قضية لم تكن تبدو قضيتَه الأولى. ولكنني لا أنسى أنه كان رجل الهيام والمجازفة والشعر، لذلك استطاع أن يكون رجلَ الصّبر والبحث وعمق الرؤية، متى تعلّق الأمر بالشعر أيّاً كانت مذاهبُه. هكذا، أعطى هذا المتلهّف المسرع سنواتٍ من الدرس والبحث المتأنّي ليقدّم مرجعاً أساسيّاً لكلّ باحث أو شاعر تدهشه تلك المرحلة ويرغب في استقصاء تلك المغامرة الإبداعية. وقد وجّه بحثه هديةً «إلى مجد الشعر... في الأزمنة كلها» كما جاء في مستهلّ الكتاب. كمال خير بك شاعرٌ ترك لنا صوتَه، ترك رؤاه، ترك أحلامَه وصيّة، وترك لنا أسئلةً لا تشفى: هذه الحياةُ فوق نَصْل الخطَر، ما يكون الشعرُ الذي يختزن نبضَها؟ هذا الشعرُ المشتعل، أيُّ حياة ألْهَمَتْه؟ وكيف أقام الشاعر التوازنَ في تلك الحياة المثلّثة الأقطاب؟ لحظةَ هوى جسدُه كان يحمل هويتَه مثل راية. لكنّ هوياتِه الشعريّة الآتية ظلّت وعوداً، وبلا توقّف سنبحثُ عنها في أفق هذه الأشعار وفي غَيْبِ معانيها.
مشاركة :