في حكم القلة هي المقاربات النقدية المسرحيّة العربيّة التي تتنظم في سياق منهجيّة ثقافية تحاول التعرّف إلى أبرز المؤثرات الكبرى الحاكمة في سياق تاريخ المسرح العربيّ المعاصر منذ نشوئه في منتصف القرن التاسع عشر وصولاً إلى عصرنا الحاضر. ويمثل كتاب «الاستعارة الكبرى في شعرية المسرحة» للناقدة خالدة سعيد واحدًا من هذه الاستثناءات البحثية المتميّزة. لقد أرادت خالدة سعيد أن تسلط الأضواء على مداخل نظرية وتاريخيّة للقضية المسرحية العربيّة التي انطلقت منذ أواسط الستينيات حتى أواسط الثمانينيات من القرن العشرين، وشكّلت ما يمكن اعتباره «ثورة» على المسرح العربيّ الذي وسمته تلك «الثورة» «بالنقل». ولذلك بدا لها أنَّ الكلام على تلك «الثورة» لا يكون كاشفًا ولا عادلاً ودقيقًا ما لم تبدأ بإلقاء الضوء على منطلقات الحركة المسرحية التي تناولها «الثائرون» بالنقد، أي تلك التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر بظروفها وطموحاتها والدور الذي نهضت به؛ وبالأخص مشاركتها السبّاقة في الريادة النهضوية. وهي مشاركة سبقت الشعر نفسه، وسبقت الرواية بالطبع لكنها لم تنل الاعتراف اللائق بها. نكاد نصل الآن إلى قرابة القرنين منذ ظهور المسرح العربيّ الحديث، وخلال هذه الحقبة التاريخيّة المفصليّة كانت هناك الكثير من التطوّرات والتحولات التي تحدثت عنها الناقدة. من أجمل المفاصل في هذا الكتاب وقوف خالدة سعيد عند الريادة المسرحية بوصفها رؤية نهضوية، وخاصة وقوفها عند خطبة مارون نقّاش رائد المسرح في الوطن العربيّ الذي لم يكتب مقالات تعرض أفكاره عرضًا نظريًا مباشرًا ومفصلاً، وإنمّا اكتفى بخطبته التدشينيّة لأول مسرحية قدّمها. لقد اطلع هذا التاجر اللبنانيّ في أربعينيات القرن التاسع عشر الميلاديّ على المسارح ودور الأوبرا في أوروبا. ولذلك جاءت سيرته في كتاب «أرزة لبنان» بأنه قدَّم بتاريخ 9 فبراير 1848 رواية موسيقية معروفة برواية «البخيل». وكان مكان العرض بيته في حي الجميزة ببيروت. وقد دعا لحضورها أصدقاءه كما دعا «كامل قناصل البلدة وأكابرها». وكانت مسرحيته هي أول مسرحيّة عربيّة بالمعنى التقنيّ للمسرح في صيغته المقتبسة عن الغرب. لقد توجّه مارون نقّاش في خطبته الافتتاحية التاريخيّة إلى جماعة تشترك في مميزات خاصة، هي جماعة من ذوي «المعرفة الفائقة» أهل الجدّ والتفرّد والاتزان، جماعة يختار التوجّه إليها إذ يتوسّم فيها الكفاءة وكذلك الرغبة في الانضمام إلى مشروعه التنويري الجديد. تشكّل خطبة مارون نقّاش، كما ترى خالدة سعيد، تمثيلاً للمسار النهضوي العربيّ من حيث الانتماء، ومن خلال رؤيته للتاريخ العربيّ بوصفه مجدًا مفقودًا لأنَّه شمس غابت عنا لتشرق عند الإفرنج «وكان الأولى أن نكون نحن المالكين هذا الامتياز لأنّنا نحن الأصول وأولئك الفروع». ومن ثمَّ فقد فهم النهضة على أنَّها استعادة، عن طريق العلم، لذلك المجد الغارب. وهي الأفكار والتصوّرات التي عبّرت عنها مبادئ النهوض والإصلاح ومبادئ الأحزاب القوميّة على اختلافها.لقد شكّلت محاولات تأصيل المسرح العربيّ المعاصر هاجسًا مؤرِّقًا لدى عدد كبير من المبدعين العرب ومنهم توفيق الحكيم ويوسف إدريس وسعدالله ونوس وعزالدين المدنيّ وغيرهم. وهم على اختلاف مقارباتهم الخاصة بالتأصيل واختلاف منهجياتهم كانوا مسكونين بذلك الهاجس فمن «قالبنا المسرحيّ» لتوفيق الحكيم الذي اقترح فيه قالب الراوي «الحكواتي» المستمد من تقاليد الريف المصريّ كي يكون قالبًا يصلح لأية مسرحيّة عربيّة كانت أو عالميّة إلى «فرفور» يوسف إدريس و«بيانات لمسرح عربيّ جديد» للراحل سعدالله ونوس وصولاً إلى تفكيك التاريخ عند التونسيّ عزالدين المدنيّ. إذن هي عقود طويلة من التحولات الثقافيّة الكبرى والمفصلية التي مرَّ بها المسرح العربيّ الحديث والمعاصر، وهذه التحولات جميعها تكشف عن أنساق المسرح العربيّ الثقافيّة في مثاقفته الحضارية مع الآخر، وفي تلك الإشكاليات المرحلية الكبرى في «سؤال التأصيل» والبحث عن الذات الثقافيّة العربيّة وعن خصوصيتها، ولا شكَّ أنَّ هذا السؤال سيستمر في إشكالاته الكبرى في مرحلة ما بعد الحداثة والعولمة الثقافيّة في جدلية التأصيل والقوالب العالميّة الثقافيّة التي تتخذ نسقًا واحدًا!أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المساعد، كلية الآداب، جامعة البحرين.dheyaalkaabi@gmail.com
مشاركة :