الكتب خرجت من الصندوق إلى الرفوف إذن. أصبحت غير مستورة، وتستدعي الفضول. الطريف أن مصطلح «وجودي» وجد له موقعاً على ألسنة المحيط الجاهل، إلى جانب «يساري»، «يميني»، «إسلامي»، وصار مثار شغب هو الآخر. ثم إني أصبحت مدرساً، بعد التخرج في الجامعة، وصرت أتوسط بين مكتبتي وبين الطلبة، فأسعى لأن يقرأوا ما أقرأ. ولم ألتفت إلى ما في هذا المسعى من خطورة، لأن كتب مكتبتي صارت تحاورهم، وتبعث فيهم التساؤلات، في مرحلة اليقين. اتضح لي في ليلٍ بأني لا أصلح لوظيفة، وبأني شأن الكتب، لا أصلح لزمان ومكان. صرت أعي الرابط السحري بين الحرية والتشرد، فبعتُ المكتبة الخشبية، وأعدت الكتب من الرفوف إلى الصندوق، وخرجت في فجر أول أيام العطلة الصيفية، مع تذكرة سفر في حافلة تنطلق إلى دمشق، ومنها إلى بيروت. النشر في مجلات «الآداب»، «شعر»، «مواقف» و«الكلمة» وفر لي مسبقاً مكاناً في ثقافة بيروت، فصرت أزور دور نشرها (الآداب، الطليعة، العودة...) كل أسبوع، آخذ إصداراتها الجديدة وأعرضها في الصحافة الأدبية. وعلى الرغم من هزال مردود الكتابة المالي، فإني لم أسعَ إلى وظيفة في الصحافة. كنت حراً/ مشرداً مع كتاب في قبضة اليد. سرعان ما استعدت مشهد الكتب على الرفوف، واستعدت حوارها النذيري الصامت معي، لأن ثقافة بيروت كانت مثقلة هي الأخرى بعبء صراع العقائد، على أنها كانت تُخلي مكاناً رحباً لمن لا عقيدة له، مثلي. لكن الكتب على رفوفها لم تشغلني عن رؤية الأفكار في المحيط وهي تتحول إلى أسلحة. حملتها بعد سنتين ونصف في صناديق وعدتُ إلى بغداد. هناك كانت المدينة تحتفل بتحالف النخب بين السلطة والمعارضة. لكن كتبي، ما إن استراحت على رفوفها، حتى عاودت الهمس النذيري: «حدّق في الأفق ترَ دخان الحرائق.» وكنت أحدق. بعد قرابة سنة قرر «السيد النائب» أن يُلحق محلتي العريقة، كاحتراز أمني، بقصرهِ الجمهوري، فجفّلَ الناسَ عن منازلهم. وفي ليلةٍ رأيتني أحمل صناديق كتبي إلى شقة رخيصة في قلب بغداد. حوارُ مكتبتي معي أصبح الآن بالغ النضج، ونذيرها اتخذ بُعداً كونياً: «لقد كنت قبلك مأواً لظلي/ وها أنا بعدك مأوى لكل الظلال..». لذلك حين صدر فجأة بلاغ من أمن الدولة بأن يُخلى كلُّ سكن لعازب في فترة مداها شهر، رأيت الفجاءة قدرية. فلم أجد لكتبي مأوى إلا مخزناً لمحل نجارة، أسفل العمارة التي نقيم فيها، اقترحها النجار بحكم الجيرة رأفة بي وبالكتب. على أنه بعد فترة وجيزة حذرني من الرطوبة التي بدأت تنهش الصناديق. أخبرت هادي العلوي (المفكر) بذلك، وكنا ننتسب لمحلة مُقتلعة واحدة، فاقترح مكاناً لصناديق الكتب تحت سلم بيته. كنا نُسرّ لبعض ضرورة السفر، لكنه سافر قبلي. أيُّ حوار عميق بين سجينين؟ أو بالأحرى بين طليقين/ مشردين؟ استضافني أخي المتزوج، واستضاف كتبي في بيته، لفترة كنت أُقدر أنها لن تطول. حديث مكتبتي معي تشرّبَ بمذاق الحكمة: «إن منفاكَ أبعد مدى من انتسابك لأرض، أو لتاريخ. شأني، فأنا لست على هذه الأرفف مادة محاصرة بإدراك الحواس؛ بل جوهرٌ روحي». في فجرٍ كذلك الفجر، خرجتُ من بيت أخي مع تذكرة سفر دون عودة. واحتفظ هو بالكتب كذكرى لأخ لا هوية له. بعد وفاته تلاشى كل معنى للذكرى؛ وحدها الكتب ظلت أمينة لأنفاسي بين طياتها، للمسة أصابعي على ورقها ذي الرائحة، لانعكاس حروفها السوداء في البؤبؤين الأسودين. إلا أنها صارت عبئاً على بيت أخي مع سنوات الحروب الطوال. استلمت قبل فترة رسالة حزينة من بائع كتب في شارع المتنبي، يقول فيها إنه رأى مكتبتي تباع على الأرصفة، وأنه اشترى عددا كبيرا منها، عليها إهداءات شعراء وكتاب عرب وعراقيين تعود لسنوات الستينيات والسبعينيات. وبلغني أن بعضهم وقع على صور فوتوغرافية، ودفتر نفوس، وأوراق بملاحظاتٍ نقدية... الخ. لم يتلاشَ أثرها، لقد انتشر ذرات في فضاء أكثر رحابة. والهمس النذيري لم يُطفأ، على أن أحداً لم يسمعه وهو يستغيث.
مشاركة :