حسن الأمين توجد أربع مؤسسات أساسية في ليبيا تحتاج إلى إعادة النظر في تركيبتها وطبيعة عملها، حتى يمكن أن نقول إنه سيكون في إمكانها وقف انزلاق ليبيا نحو الفوضى والتقسيم. أولا لدينا المؤسسة التشريعية المعروفة حاليا باسم «المؤتمر الوطني العام»، أو كما يسميه البعض «البرلمان المؤقت». هذه المؤسسة فيها إشكاليات كثيرة، والتركيبة الحالية للمؤتمر الوطني هي انعكاسات للانقسام في الخارج، أي في الشارع. فهناك محسوبون على جماعات جهادية وعلى جماعة «الإخوان».. وهكذا، بينما المطلوب إنهاء مسألة انتشار السلاح.. يوجد داخل المؤتمر الوطني من له علاقات بالمسلحين. وعليه، لا بد من إعادة صياغة المؤسسة التشريعية أولا، ومن جديد، ولا بد من انتخابات جديدة لأن المؤسسة التشريعية بشكلها الحالي عاجزة فعلا عن إنجاز الاستحقاقات المنوطة بها، كما أن قانون الانتخابات الذي جاء بهذا الكيان التشريعي لا بد أن يخضع لتعديل دستوري، وهذا من ضمن المبادرات المطروحة في الوقت الحالي.. فإما أن يعاد انتخاب المؤتمر الوطني أو تُجرى عملية إصلاح جذري داخل هذه المؤسسة، بخريطة طريق جديدة ولائحة داخلية جديدة.. إذا تحقق هذا، فسيصبح من الممكن قيام مؤسسة قادرة على منع ليبيا من الانزلاق نحو الفوضى. ولذلك، فإنه إما أن تكون هناك إصلاحات جذرية للمؤسسة التشريعية، أو أن يصار إلى تسليم صلاحياتها لـ«لجنة الستين» التي ستختص بوضع الدستور الجديد للبلاد، بعد انتخابها. المؤسسة الثانية التي يمكن التعويل عليها مستقبلا، لكن بشروط، هي الأحزاب السياسية. هذه الأحزاب يمكن أن تغدو عاملا مهما في نشر الوعي السياسي ووضع رؤى للعملية السياسية في ليبيا.. غير أن المشكلة حاليا أنه يصعب وصف غالبية هذه الأحزاب بأنها «أحزاب» حقيقية، بل هي كيانات ضعيفة هشة تفتقر إلى الرؤية السياسية. وأنا أعتبر دورها إلى حد الآن كان هدّاما أكثر من كونه بناء. غالبية هذه الأحزاب تعرقل عملية التحول الذي تحتاجه البلاد بسبب تركيزها على أجنداتها الخاصة، وبالتالي، يجب أن تبتعد عن هذه الأجندات الخاصة والخطط قصيرة النظر، والتركيز على أن تكون الأولويات لإنجاز المرحلة الانتقالية المفترض بها أنها عامل بناء للعملية الديمقراطية في البلاد. وبعد الخروج من هذه المرحلة، فليتنافس المتنافسون. الأحزاب الليبية، لكي تكون فاعلة، تحتاج إلى الخروج للناس برؤية واضحة.. سواء للمرحلة الحالية أو المستقبلية. سواء ما يتعلق بالاقتصاد أو السياسة الخارجية. ولا بد أن يخرج علينا كل حزب برؤية واضحة، وأن يركز على العملية الديمقراطية من خلال نشر الوعي السياسي والوعي الحزبي. هذا الأمر غير متوافر وهذه الأحزاب لا تركّز على مثل هذه الأمور، ولا يوجد التواصل المطلوب بين القيادات الحزبية مع القواعد الشعبية. وثمة أحزاب لم تدخل هذه المرحلة بعد. مع هذا، هناك بعض التجارب بدأت تتفهم دور الحزب، وبالتالي، هناك أمل أن تتعلم هذه الأحزاب من الأخطاء، وأن تنخرط في عملية بناء مستقبل ليبيا الموحدة. أما ثالث المؤسسات التي يمكن التعويل عليها في منع الانزلاق في ليبيا، فهي مؤسسات المجتمع المدني، لكن هذه المؤسسات ما زالت تنقصها الخبرة، وما زالت تخلط الأوراق. والمؤسسة التي يفترض أن تتصدى لقضية واحدة، تجدها تعمل على العديد من الملفات، ومشكلتها تقريبا مثل المشكلة التي تمر بها الأحزاب السياسية. وهذا يرجع لأن ليبيا ظلت تفتقر لمؤسسات المجتمع المدني لعقود. ولكي يدخل المجتمع المدني في الطور الفاعل من الحراك الليبي، فلا بد من التخصص في العمل.. لا يمكن لمؤسسة مجتمع مدني واحدة أن تعمل على العديد من القضايا. مؤسسات المجتمع المدني في ليبيا ينبغي أن تعمل بوصفها مجموعات ضاغطة.. كل في مجاله.. مثلا مؤسسات حقوق الإنسان لتركز على هذا الملف، وليس على حقوق الإنسان والاقتصاد والسياسية. وهنا أشير إلى أنني أعتقد أن مؤسسات المجتمع المدني تعاني أيضا من نقص تدريب الكوادر القيادية. وهناك مشكلة أخرى تواجه مؤسسات المجتمع المدني هي نقص التنسيق فيما بينها.. ففي كل منطقة كل مؤسسة تعمل بمفردها، في حين ربما كان بمقدور بعضها العمل جماعيا وتشكيل جمعيات قوية أقدر على تحقيق منجزات ملموسة على الأرض. لكن في هذا السياق لا يمكن تجنب التطرق إلى القضية الكبيرة التي لدينا في المؤسسات الإعلامية. الإعلام في فترة التحرير والصراع المسلح لعب دورا كبيرا في نقل معاناة الليبيين لكل العالم، لأن الهدف كان واحدا. وبعد ذلك بدأ الإعلام يتخبط ولم يستوعب طبيعة المرحلة الانتقالية، ورأينا القنوات تمول من هذا وذلك.. ومنها ما يعتمد على تمويل من أطراف خارجية، في غياب الاتفاق على «ميثاق شرف». ولذلك لا يمكن أن تأمل في بناء قوي للمستقبل بينما الإعلام يعاني من مشكلات جوهرية، مع أنه يمكن أن تلاحظ أن أكبر إنجاز حققته الثورة هو حرية الإعلام.. ما تريد أن تقوله تقوله، لكن هذا الهامش الكبير للإعلام لم يستغل استغلالا جيدا، بل أصبح أحيانا يؤجج النزاعات، والأمثلة كثيرة، والإعلام بالنسبة لي أهم مؤسسة، وأنا أرى أنه أهمّ حتى من الأحزاب السياسية، وما أعول عليه وأريد أن أعمل عليه هي مؤسسات المجتمع المدني والإعلام. وأخيرا، نأتي إلى المؤسسة الرابعة وهي «القبيلة»، التي يمكن أن يقال عنها إنها الوحيدة التي تعمل الآن في البلاد لحل الخلافات.. إنها تعمل اليوم وإن كان لا يمكن وصف دورها بالدور البنّاء المستقبلي.. لكنه «مؤقتا» دور إيجابي. وكان دور القبيلة تاريخيا - أي قبل انقلاب سبتمبر (أيلول) 1969 - مؤسسة اجتماعية، وكانت فاعلة في هذا المجال وغير مسيّسة، ولكن حين تولى القذافي الحكم، صار يستغلها في قضايا سياسية. وحين قامت الثورة وبعد 17 فبراير (شباط) 2011 وبسبب الصراعات الموجودة، وفي ظل انعدام سلطة مؤسسات الدولة، وجدنا أنفسنا نسير في النفق نفسه الذي حفره القذافي وصرنا في حاجة للقبيلة على طريقة «مجبر أخاك لا بطل». ولكن على المدى البعيد،لا بد أن يتوقف الدور السياسي للقبيلة وأن ترجع إلى الدور الاجتماعي، لأن التوجه الديمقراطي يجب أن يكون للمؤسسات. * إعلامي وناشط حقوقي والعضو المستقيل من المؤتمر الوطني الليبي
مشاركة :