في عمق الحمم المتجمّدة تحت آيسلندا، نجح العلماء في تحقيق إنجاز غير مسبوق حين أخذوا ثاني أكسيد الكربون الذي تبثّه محطة لتوليد الطاقة وحوّلوه إلى مادة صخرية بوتيرة سريعة فاقت توقعات الفحوصات المخبرية. تثبت النتائج التي نُشرت في مجلة «العلوم» وجود طريقة فاعلة لتخزين الكربون وتقليص جزء من انبعاثات غازات الدفيئة التي ينتجها البشر وتعزز التغيّر المناخي. وقال روجر أينز، خبير في الكيمياء الجيولوجية في مختبر «لورانس ليفرمور» الوطني (لم يشارك في الدراسة): «إنها نتائج مثيرة للاهتمام. لم يسبق أن أجرى أحد تجربة واسعة بقدرهم وفي ظل الظروف التي استعملوها». تمكّن البرنامج التجريبي الذي أطلقته محطة الطاقة الحرارية الجوفية في «ريكيافيك»، بدعمٍ من برنامج أوروبي أميركي اسمه «كارب فيكس»، من تحويل ما يفوق 95% من ثاني أكسيد الكربون المحقون في الأرض إلى صخر طباشيري خلال سنتين فقط. قال العالِم الهيدرولوجي مارتن ستوت الذي يعمل في جامعة كولومبيا في نيويورك وشارك في الدراسة: «لقد تفاجأنا. لم نتوقع هذه النتيجة. ظننا أن هذا المشروع سيمتد على عقود عدة. كان يمكن أن نحصل على الجواب الذي نبحث عنه بعد 20 سنة. لكن تحقق الإنجاز بسرعة فائقة وقد أبهرتنا النتيجة خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة». حين يحترق الوقود الأحفوري، مثل الفحم أو الغاز، ينتشر الكربون المُخزّن داخله في الهواء على شكل ثاني أكسيد الكربون. يحبس هذا النوع من غازات الدفيئة الحرارة في الغلاف الجوي، ما يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة عالمياً وتهديد الاحتياطيات الجليدية القطبية وارتفاع مستوى البحر. زادت أيضاً حموضة المحيط، ما أدى إلى تراجع الشعاب المرجانية وكائنات بحرية أخرى بوتيرة متسارعة. محاولات حثيثة حاول الباحثون طوال سنوات اكتشاف كيفية إعادة ذلك الكربون إلى الأرض مجدداً. يمكن استخراج ثاني أكسيد الكربون من الانبعاثات وحقنه تحت الأرض في مياه مالحة أو في مكامن النفط والغاز بعد تفريغها، لكن قد يتسرّب الغاز إلى الهواء في النهاية أو قد تفتح عملية الحَقن بحد ذاتها المخزون وتسمح بتسرّب محتوياته. كان الباحثون يسعون إلى إعادة نسخة صلبة من ذلك الكربون إلى الأرض (تقوم الطبيعة بهذه العملية منذ فترة، لكن خلال مدة زمنية أطول بكثير). في ما يخص محاولات البشر عَكْس أضرار انبعاثات غازات الدفيئة سريعاً، يبقى القول أسهل من الفعل. لا يتفاعل الحجر الرملي كثيراً مع ثاني أكسيد الكربون. وأثبت بعض الفحوصات المخبرية أن الصخر البازلتي الذي ينتجه النشاط البركاني قد يكون أكثر فاعلية لكنه يحتاج إلى قرون عدة أو أكثر. برزت فرصة لإجراء اختبار ميداني حين تقابل رئيس آيسلندا، أولافور راغنار غريمسون، مع باحثين في كولومبيا وعبّر عن اهتمامه بتخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في بلده. قال ستوت: «إنها نقطة البداية وقد بلغت أعلى المستويات: يُعتبر هذا الوضع غير مألوف بالنسبة إلى المشاريع البحثية». بالتعاون مع محطة الطاقة في «ريكيافيك»، صمّم فريق بحثي تجربة في محطة الطاقة الحرارية الجوفية في «هيليشيدي». في مارس 2012، حقن الباحثون 175 طناً من ثاني أكسيد الكربون الصافي في بئر للحقن. بعد بضعة أشهر، استكملوا العملية عبر حقن 73 طناً من خليط ثاني أكسيد الكربون وكبريتيد الهيدروجين. (أراد الفريق أن يتأكد من نجاح العملية عند وجود غازات أخرى. إذا نجحت، سيوفّرون الوقت والمال اللازمَين لفصل ثاني أكسيد الكربون). طريقة وتقنية فصل الباحثون ثاني أكسيد الكربون عن البخار الذي تنتجه المحطة وأرسلوه إلى بئر الحقن. يتمّ ضخ ثاني أكسيد الكربون في أنبوب يقع داخل أنبوب آخر مليء بماء مأخوذة من بحيرة مجاورة. على عمق مئات الأقدام تحت الأرض، ينطلق ثاني أكسيد الكربون في الماء حيث يكون الضغط عالياً جداً لدرجة أنه يذوب سريعاً بدل أن ينتج الفقاعات ويخرج من موقعه. ثم يُرسَل ذلك الخليط من الماء وثاني أكسيد الكربون المُذوّب الذي يصبح حمضياً جداً إلى مستوى أعمق ويصل إلى طبقة من الصخر البازلتي حيث يبدأ بإطلاق معادن مثل الكالسيوم والمغنيسيوم والحديد. سرعان ما يُعاد جمع العناصر الموجودة في الخليط قبل أن تتحول إلى صخور كربونية. يكون الصخر البازلتي أساسياً بحسب قول العلماء: لا يتفاعل الحجر الرملي مع ثاني أكسيد الكربون بهذه الطريقة. ويكون وجود الماء محورياً أيضاً. إذا كان الخليط يحتوي على الغاز الصافي بدل الغاز المذوّب في الماء، من المستبعد أن يساعد البازلت على تشكيل الصخور الكربونية (ليس بهذه السرعة على الأقل!). حقن العلماء أيضاً رواسب كيماوية في الخليط، بما في ذلك نوع من ثاني أكسيد الكربون المصنوع من نظائر ثقيلة ونادرة تُعرَف باسم «الكربون 14». كذلك، حقنوا كميات ضئيلة أخرى من غازات مثل سداسي فلوريد الكبريت الذي يكون جامداً ولا يتفاعل كثيراً مع محيطه. حين تحقّق الباحثون من الماء الموجودة في آبار المراقبة في مرحلة لاحقة من التجربة، اكتشفوا أن آثار الغاز لا تزال في مكانها (ما يشير إلى مرور الماء)، لكن تراجعت في المقابل جزيئات «الكربون 14» بنسبة لافتة. حين تابعت الماء التدفق عبر الطبقات البازلتية، بقي ثاني أكسيد الكربون في الصخر. حصلت معظم هذه العملية تحت الأرض، لكن لاحظ الباحثون أيضاً بلورات رقيقة من الكربونات التي تلتصق بسطح المضخة والأنابيب في بئر المراقبة. أوضح ستوت: «كانت تشبه الملح الموجود في المملحة... على سطح تلك الصخرة البازلتية الرمادية أو السوداء». بناءً على نتائج مخبرية أخرى، توقّع العلماء أن تتطلب هذه العملية قروناً عدة أو أكثر. لكن أثبت الاختبار الميداني أن هذه العملية، حين تحصل في الظروف المناسبة، تتطور بسرعة لافتة. مع ذلك، تبرز بعض الضوابط في هذه العملية كونها تتطلب استعمال الصخر البازلتي الذي يمكن إيجاده بوفرة في أماكن مثل منطقة شمال غرب المحيط الهادئ في الولايات المتحدة لكن لا يمكن إيجاده في أي مكان آخر على اليابسة. ترتفع كميّته تحت المحيط، لكن لم يتأكد أحد بعد من أنّ الماء المالحة تكون فاعلة بقدر الماء العذبة. يطرح التخزين مشكلة في هذا المجال. يشكّل سحب ثاني أكسيد الكربون من الانبعاثات تحدياً صعباً بحسب قول الباحثين، فكيف بالحري سحبه من الغلاف الجوي؟ لكن قال أينز: «تبدو هذه النتائج واعدة جداً وتؤكد على أهمية اكتشاف بعض الأماكن التي يمكن استعمالها لتنفيذ العملية وتجربتها على نطاق أوسع ولفترة أطول». في غضون ذلك، يُقال إن العاملين في محطة آيسلندا يسعون إلى تطوير هذه العملية.
مشاركة :