الرصيف ذاك الحامل للبشر بتنوعهم، بائعي الزهور وبائعات اللذة الحرام والعازفين الجائلين والرسامين والشحاذين بفنونهم المختلفة، والعاشقين والمجانين والسكارى ورجال الأعمال، والمتسوقين، والماشين وحدهم ببطء وتمهل، أو المستعجلين الذين ينظرون في ساعات أيديهم حاملين حقائب الورق. إن أكثر ما يشدني في الأسفار هو مقاهي الرصيف، التي تغطي مساحات كبيرة من شوارع العواصم والمدن، أو المنزوية في حارات ضيقة، يفوح منها عبق التاريخ، والمرصوفة بأحجار نبت بينها العشب، مقاهٍ ذات مظلات ملونة، لم أنجذب يوماً للأسواق والمطاعم الكبيرة، فمقهى الرصيف يفي بغرض المأكل والمشرب، وقهوة اسبرسو التي أجد متعة في ارتشافها بين الحين والآخر. من مكاني في المقهى الذي أختاره بعناية، أستطيع مراقبة كل شيء، الشارع ورواد المقهى المختلفين في أعمارهم وجنسياتهم وألوانهم، فكأن المقهى وطن الجميع دون تحيز أو استثناء، وقد تستمع إلى موسيقى تنبعث من مكان ما، تعيد تصوير الناس وإيماءاتهم، وتصوير الكراسي الخالية التي تقول الكثير، والمارة الذين لا بد أن تجد بينهم من يكلم نفسه ويشير بيديه. وقد يمر عازف على المقاهي، يعزف على آلته بكل صدق، عله يحصل على بعض اليوروهات، أو عازف آخر يقف على الرصيف المقابل، ويضع قبعته على الأرض يجمع نقود المارة المستمعين باهتمام، أو العابرين الذين يتعاملون معه كشحاذ راقٍ. مقهى الرصيف عالم ساحر وفاتن، فيه متع وتعلم، من مجرد المراقبة فقط، مراقبة الآخرين وسلوكهم ونبراتهم وإيماءاتهم، وهناك بشر متشابهون في كل مقاهي العالم، إذ لا بد أن تكون هناك طاولة للعاشقين، وطاولة لرجال أعمال يتحدثون بحماسة، أو امرأة وحيدة أربعينية تدخن بشراهة، وتنظر في مرآتها الصغيرة كل خمس دقائق، ثم تنهض حاملة خيبة أمل معها، كما لا بد أن ترى مسنين صامتين تزوجا من دهر، فجف الكلام بينهما. مقهى الرصيف يقدم مادة خصبة للخيال، تخيل أفكار الناس وتخيل ما تقوله نبرات اللغات التي لا تعرفها، وتخمين سبب العبوس والابتسام على الوجوه، ويشدك الغموض الذي يغلف بعض الوجوه الصامتة، وخاصة النساء والرجال الجالسين وحدهم. تفاصيل ما يحدث في مقاهي الرصيف، يمكن لكاتب أن يكتب فيها روايات طويلة، فهي أحد الإلهامات الثرية للأدباء والشعراء والموسيقيين، كما أنها كانت مادة خصبة للرسامين التشكيليين في القرن الماضي، وفي ظني أن معظم مبدعي العصور يعشقون مقاهي الرصيف. osbohatw@gmail.com
مشاركة :