من أروع السباقات التي رأيتها أو سمعت عنها في لندن السباق المثير الذي ما زال يجري بين الإنجليز والعرب، أو بوجه أدق: بين المرسلين العرب وسعاة البريد الإنجليز. وهو سباق مثير بسبب التوازن بين مزاج الطرفين: قوة صاحب الرسالة العربي في تضليل ساعي البريد الإنجليزي، وقوة البوسطجي الإنجليزي في حل رموز الرسالة أو الرزمة البريدية، وتسليمها للمقصود بها. وقد بدأ هذا السباق، كما يبدو في إدراكنا، بقدرات وعزيمة البوسطجي الإنجليزي. اتكلنا عليها دون أن نفكر في وضع العنوان الدقيق والكامل. لقد كتبوا اسمي بشتى الصور، قشطنطنيني وقشتنتنائي وكشتباني وقمر ديني... إلخ. وكتبوا اسم الشارع محرفًا، ومن دون رقم الدار. وكتبوا اسمي مرة بالإنجليزية واسم الشارع بالعربية، ومرة اسمي بالعربية واسم الشارع بالإنجليزية. ولكن ساعي البريد الإنجليزي كان دائمًا يوفق في معرفة مكاني، ويضع المكتوب أو الطرد في يدي. وقد تفنن المرسلون العرب في كتابة عناويننا بالعربية. ومن ذلك الشرطي الذي أضاف هذه الفقرة البليغة على الرسالة بالعربية: «إلى جناب البوسطجي الإنجليزي الشريف، يرجى جدًا جدًا جدًا توصيل هذا المكتوب لأن فيه خبر زواج بنت خالي من ابن عمي محمود». وأضاف في أعلى المظروف كلمات: «سري وخاص جدًا». ولعل المرسل الوحيد الذي استطاع فعلاً دحر البريد البريطاني كان وزارة الدفاع العراقية في العهد العارفي، وقد تم ذلك باستعمال مزيج لوذعي عجيب من اللغتين العربية والإنجليزية. كتبوا على المظروف بالإنجليزية: إنجلترا – المملكة المتحدة، ثم عنوان السفارة العراقية في لندن بالعربية. واضطر البريد الإنجليزي إلى فض المظروف المكتوب عليه «سري ومستعجل للغاية»، ووجدوا فيه طلبًا لشراء ألف حذاء عسكري. سارعوا عندئذ إلى تحويل الرسالة إلى مكتب الملحق العسكري العراقي بالضبط، وإن لم يكن طبعًا بالسرعة المستعجلة للغاية! بيد أن من أظرف حكايات البريد البريطاني الرسالة التي تسلمها صديقي العقيد يوسف محمد سليم. كانوا قد كلفوه برعاية مواطن كردي بسيط من أهل السليمانية، أرسلوه لمعالجته من مرض ألم به. وكان مزارعًا كرديًا لا يعرف من دنياه غير مدينة السليمانية، ولم يكن في الواقع يعرف منها غير أسواقها. حجزوا له غرفة في فندق بحي كينسنغتون، قريبًا من موقف الحافلة رقم 49. يمر هذا الباص من أمام بيت زميلي يوسف. لم يكن هذا المواطن الكردي يعرف كلمة واحدة من اللغة الإنجليزية، ولا أي شيء عن لندن ومراكزها. ودأب طوال إقامته في لندن على الخروج من فندقه صباح كل يوم، وارتقاء الحافلة 49 لتنزله أمام مسكن صاحبي يوسف، ويقضي النهار معه يدردش بالكردية، ثم يعود بنفس الباص لفندقه. انتهت معالجته، وعاد لبلده، ثم خطر له أن يشكر العقيد يوسف، فحرر له رسالة كريمة وضعها في مظروف كتب عليه بالإنجليزية: لندن إنجلترا. ثم كتب بالعربية: باص رقم 49! يقطع هذا الباص مسافة 15 ميلاً من كينسنغتون إلى منطقة كرويدن. صدق أو لا تصدق! تسلم صديقي هذه الرسالة وأراني إياها. ولا تسلني كيف؟!
مشاركة :