قراءة في الوعي الجمالي الشعري.. البحرين أنموذجًا (1)

  • 7/30/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

اطلعت مؤخرًا على عدد من الدواوين والمجموعات الشعرية لشعراء من البحرين، وكانت القصائد التي اطلعت عليها تمثل أجيالاً مختلفة كتبوا بأنماط مختلفة، وللوهلة الأولى يخرج الباحث في المشهد الشعري البحريني بعد قراءة الشعر الحديث والمعاصر في المملكة بمجموعة من النتائج في مقدمتها: إن التنوع في الأنماط الشعرية والتعايش بينها يعد سمة اساسية في ذلك المشهد كما أن الريادة في تبني الاتجاهات الحديثة والمعاصرة في تلك الأنماط بالنسبة لدول الخليج مزية مهمة في القصيدة البحرينية الحديثة والمعاصرة، وهذه النتائج التي سنحاول إثباتها في قراءة المشهد الشعري البحريني، تنسجم مع النسق الثقافي التاريخي والحديث الذي يميز البحرين من غيرها من الدول المحيطة بها في الخليج العربي، والحقيقة أن النسق الثقافي في البحرين لا يمكن له أن ينفصل عن مجمل الفعاليات التي كونت نمط الثقافة في هذه البلاد والبلاد العربية الأخرى، فالتاريخ والجغرافيا والبناء الحضاري والفكري والموقف من حركة الحياة ومحاولة التكييف مع المتغيرات الهادئة والحادة في التاريخ والفكر كلها عناصر أسهمت في تكوين تلك الثقافة وصهرها بوحدة فاعلة جعلت منها سمة مميزة من سمات الفكر والثقافة البحرينية، وإذا كنا قد بدأنا من نتائج البحث فذلك لرغبتنا في إثبات صحة هذه النتائج وجعلها فرضيات بحاجة إلى التدقيق والتمحيص لكي تكون دراستنا التطبيقية على النص البحريني منطلقة من أسس وقواعد دقيقة ومنضبطة، وعلى هذا الأساس نقدم الفرضية الرئيسة التي سيتم من خلالها قراءة النسق الثقافي البحريني، ومفاد هذه الفرضية تقوم على أن الثقافة البحرينية تستند الى مرجعيات ما يعرف (بالوعي المرن) لشروط المتغيرات والتحولات الحضارية والجمالية، ونقصد بالوعي المرن القدرة الاستثنائية على التفاعل والتعامل مع التحديات والاستجابة المنضبطة للعوامل التي تتيح للحضارة الاستمرار بوتيرة متصاعدة، وهذه الثنائية التي هي نتاج مجمل العوامل التاريخية والجغرافية والحضارية في البحرين أنتجت مجموعة من الثنائيات الفرعية الأخرى كان الأدب واحدًا من أهم تلك الفروع، ولكي نبدأ بتأكيد ما توصلنا إليه لا بد من قراءة التاريخ البحريني ولحظات الانفصال والاتصال مع الحضارة الإنسانية وكيفية تعبيره عن الهوية الخاصة بتلك البلاد مبتدئين بالعاملين التاريخي والجغرافي. كانت البحرين تشير الى إقليم جغرافي واسع يشمل غالب المناطق الشرقية من شبه الجزيرة العربية المطلة على الخليج العربي، كما أشارت إلى ذلك المدونة العربية الجغرافية والتاريخية، وهذا يعني أن الجزر المعروفة اليوم بـ (مملكة البحرين) هي خلاصة تاريخ عربي طويل كان ومايزال جزءًا مهمًا من الحضارة العربية الإسلامية، وتشير المدونات الى ان تاريخ مملكة البحرين يعود الى اكثر من 5000 عام. عندما كانت حضارة (دلمون) التي سيطرت قديمًا على الخطوط التجارية بين الحضارة السومرية القديمة وحضارة وادي السند مركزًا للاتصال التجاري والثقافي والحضاري بين العرب والشعوب المجاورة، وذكرت المدونات المسمارية القديمة في بلاد الرافدين اسم (دلمون) في الألف الرابع قبل الميلاد الأمر الذي يشير الى عراقة وقدم هذه الحضارة، وفي العصر الجاهلي عرفت الجزيرة باسم (أوال) نسبة الى صنم على شكل رأس ثور يقع في جزيرة المحرق ويعبد من قبائل بني بكر وائل وتميم، لذلك فمن المرجح ان تكون منطقة (دار كليب) الموجودة في مملكة البحرين مضيفًا لكليب بن وائل بن ربيعة التغلبي، وهو من زعماء القبائل العربية في العصر الجاهلي، والبحرين اسم قديم لمنطقة في الجزيرة تعرف اليوم بمملكة البحرين، ويؤكد الإدريسي في نزهة المشتاق هذه الحقيقة بقوله: (وجزيرة أوال جزيرة حسنة بها مدينة كبيرة تسمى البحرين وهي عادة عامرة خصبة، كثيرة الزروع والنخل وفيها عيون ماء كثيرة ومياهها عذبة منها عين تسمى: (عين بو زيدان) وهذا يعني ان اسم البحرين اليوم ارتبط باسم أوال الجزيرة وان طبيعتها التي ذكرها الإدريسي ربما تعلل تكرار وصف سعف النخيل المرتبط بالبحرين في قصائد شعراء الجاهلية، إذ يعود النخل الى تلك المدينة القديمة في جزيرة أوال، (هو واحد من الاحتمالات القرائية الممكنة) في دراسة الشعر الجاهلي، وقد ورد سعف البحرين في كثير من قصائد الشعراء ومنهم الحارثة بن حلزة اليشكري الذي قال: اذ رفعنا الجمال من سعف البحرين سيرًا حتى نهاها الحساء. كما ورد اسم أوال في مجموعة من القصائد الجاهلية ومنها قصيدة لعمرو بن قميئة يقول فيها: هل ترى غيرها تجيز سراعًا كالعدولي رائحًا من أوال وفي قصيدة أخرى للمخبل السعدي يقول فيها: تحملن من ذات الازاء كما انبرى يبز التجار من أوال سفائن، وهنا يبدو البحر هو الأساس في تشبيهات الشعراء الجاهليين لمنطقة أوال الأمر الذي يشير إلى أن المقصود بهذه التشبيهات جزيرة البحرين، وتدل الأبيات على أن هذه المنطقة كانت منطقة تجارة نشطة. وبغض النظر عن تأكيدنا أو ترجيحنا بشأن الموقع المقصود في هذه الأبيات إلا أنها تؤكد وجود حياة مستقرة في البحرين تعتمد الزراعة والتجارة معا، وهذا يدفعنا إلى السؤال الآتي: كيف استطاعت هذه المنطقة أن تحافظ على استقرارها ودينامية وجودها على الرغم من مركزها الاستراتيجي بين الحضارات القديمة؟ وللإجابة عن هذا السؤال لابد أن نشير إلى أنه على الرغم من صغر مساحة البحرين إلا ان هذه المملكة امتازت من غيرها بقدرتها على التكييف مع المنجز الحضاري والحفاظ على هويتها في كونها مركزًا حضاريًا يستطيع الانسجام مع الحضارات الكبيرة، وقد أكد القدماء دور البحرين في الحضارة الشرقية بقولهم: (لم يصل إلى أحد خبر من أخبار العرب والعجم إلا من العرب، وذلك لأن من سكن مكة أحاط بعلم العرب العاربة وأخبار أهل الكتاب، وكانوا يدخلون البلدان للتجارة فيعرفون أخبار الناس، وكذلك من سكن الشام خبر بأخبار الروم وبني اسرائيل واليونان، ومن وقع البحرين وعمان فمنهم أتت أخبار السند وفارس)، وهذا يعني أن البحرين كانت واحدة من ثلاث ركائز في علاقات الحضارة العربية مع غير العرب، لذلك كانت قدرتها على التكييف والانسجام تحقق ثنائية التواصل والانفصال في الوقت نفسه، إذ كانت هذه القدرة غالبًا ما تدفعها الى التفاعل مع الآخر وفي الوقت نفسه نتجه بها للدفاع عن الهوية في الوجود الحضاري المتعدد، وهذه الثنائية منطلقة من ثنائية الوعي المرن القابل للانفتاح والتفاعل مثل قابليته على التموضع والتراص في مراحل التهديد، ويفسر لنا هذا الوعي أسباب استمرار الإنسان في البحرين في بناء الحصون منذ أقدم العصور على الرغم من تمركز التجارة الشرقية والجنوبية الشرقية للعرب فيه، إذ عرفت البحرين بناء مجموعة من الحصون والقلاع منذ اقدم الازمنة، فقلعة البحرين تعد بمثابة المركز الرئيسي لحضارة (دلمون)، وقلعة الشيخ سلمان بن احمد الفاتح التي بنيت عام 1812 وبنيت على أطلال قلعة سابقة قديمة، وهذه القلاع تؤشر مجموعة من المتغيرات الحضارية، منها ان هذه المنطقة كانت عرضة للغزوات الخارجية وأطماع الحضارات الكبيرة، والأخرى ان اقتصادها يعتمد على البحر بشكل رئيسي لذلك كان لابد من حماية البحر بقوة الارض، وثالث الاستنتاجات يكمن في رغبة اهلها وقادتها في إعطاء سكان الجزيرة هوية خاصة تميزهم من المحيطين بهم لكي لا يكون صغر مساحة الجزيرة عاملاً في اذابة الهوية بالهويات الكبرى، وهي مهمة عسيرة في ظروف الصراع بين الحضارات...

مشاركة :