قراءة في الوعي الجمالي الشعري.. البحرين أنموذجًا «2»

  • 8/6/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

الحقيقة أن الهوية الخاصة التي أراد السكان في البحرين الحفاظ عليها تمثل الامتداد التاريخي والجغرافي والحضاري العميق للهوية العربية بوصف هذه المنطقة امتدادًا تاريخيًا وجغرافيًا للمنطقة الشرقية من الجزيرة العربية، وتؤكد مواقع الحياة والخصب في الجزيرة ذلك الاندماج بالحياة العربية، إذ تمتاز جغرافيا البحرين بوجود عناصر الحياة في المنطقة المقابلة للجزيرة العربية، فساحلها الشمالي والشمالي الغربي أرض خصبة فيما تغطي أراضيها الأخرى الرمال الأمر الذي يشير إلى أن بداية الحضارة فيها كانت في الجهة المقابة للجزيرة العربية وان العرب هم الذين شيدوا حضارتها، مقابل عناصر الحياة هذه فإننا لابد أن نشير الى أن محدودية الجزيرة فرضت على ثقافتها الشعور بعدم وجود بديل للمقاومة في مواجهة الغزاة، وذلك بسبب ضيق الجغرافيا، لذك كانت لابد من بناء القوة الذاتية وفي الوقت نفسه التعامل بانفتاح مع مصالح الحضارات الأخرى التي ترى في البحرين ممرًا لها، وثقافة الجغرافيا الضيقة ربما تكون هي السبب في التوجه الى الحصون والقلاع في بنية الثقافة البحرينية، في ضوء هذه الثنائية المتمثلة بالمقاومة والانفتاح يمكن تسويغ وصف الوعي البحريني على انه (الوعي المرن) في الثقافة العربية، وذلك بسبب مقدرته على الاحتواء (احتواء الآخر، احتواء التطور ومقاومته الاستلاب والإذابة). وهذه القدرة تمثل في حقيقتها عمقًا تاريخيًا أصيلاً في ثقافة البحرين بسبب حساسية موقعها في الخليج والعالم وقدرته على إتاحة فرص التبادل الفكري والحضاري مع حضارات وشعوب مختلفة، لذلك فإن حضارة البحرين القديمة وفي مرحلة صدر الإسلام تعد أنموذجًا لقدرة الإنسان في تلك المنطقة على البناء والإعمار والتفاعل الحضاري بما يؤهله الى الانضمام الى حركة الحياة المستمرة، واذا ما أشرنا الى فكرة الوعي المرن فإننا لا بد ان نشير الى الطرف الآخر في ثنائية الثقافة البحرينية والمتمثلة في حساسية الوعي من أجل الحفاظ على الهوية، لان التطور التاريخي المتضمن انفصال جزر البحرين عن اليابسة (المنطقة الشرقية) من الجزيرة وانفتاحها المقابل على التجارة البحرية بين أقدم الحضارات رسمت شخصية خاصة للإنسان البحريني قوامها محاولات تحصين الذات من الاندماج الكلي مع الآخر وبالتالي فقدان الهوية المميزة، ولذلك عبّر الانسان البحريني في تاريخه المتتابع عن هويته بالانفتاح من خلال ترسيخ القيم العربية الأصلية في سلوكه وعلاقاته وقيمة، واذا ما عرفنا ان زعيم قبائل تغلب في الجزيرة العربية كانت له دار كليب المعروفة في تاريخ البحرين بوصفها المأوى والملاذ، ندرك حجم تمسك العرب في الجزيرة والبحرين بهويتهم وثقافتهم وامتدادهم الحضاري. ولا يفوتنا أن نذكر ان صغر مساحة البحرين لم تكن عاملاً في التضييق على النشاطات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخاصة بالعرب وغيرهم، اذ تنوعت النشاطات الاقتصادية بين الزراعة والصيد والتجارة منذ أقدم العصور فيها، فضلاً على النشاطات الإبداعية والجمالية، لهذا يمكن القول إن ثنائية (الوعي المرن والحفاظ على الهوية) انعكست على الحياة عامة والمنجز الإبداعي والإنساني بصفة خاصة، وتذكر الوثائق التاريخية أن سكان البحرين عرفوا الإسلام وآمنوا به من خلال الدعوات التي وصلت الى شرق الجزيرة العربية، لذلك كانت الاستجابة للدعوة الإسلامية سهلة مرنة سلسة خاصة بعد وصول من يدعوهم الى الدخول في الإسلام، ونقلا عن ابن عباس قال: أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول (ص) بالمدينة لجمعة في عبد القيس بجوآثا - وهو اسم حصن بالبحرين. وكان الرسول في السنة السادسة للهجرة بعث العلاء الحضرمي الى البحرين فلما وصل اليهم قبلوه واطاعوه وقبلوا أوامره ونواهيه طوعًا ورضًا. وهي إشارة الى قبول أهل البحرين بالتحول التاريخي الكبير الذي حدث بالإسلام واقتناعهم بضرورته لتنظيم حياتهم الجديدة والتحول من عبادة الأصنام الى عبادة الله سبحانه وتعالى. وبعد هذا التحول الروحي استمرت الحياة في البحرين على وتيرة العمل والعبادة وأصبح تعاطي المهن في حياتهم يمتلك بعدًا آخر خاصة فيما يتعلق بمهنة الغوص التي توسعت على وفق رؤية جديدة مؤمنة بالله بعد أن كان الغوص مغامرة غير مضمونة النتائج، لذلك اتسعت هذه المهنة لتوفير أسباب الحياة للإنسان في البحرين، ويعبر المسعودي عن حقيقة اتساع هذه المهنة في البحرين بقوله: (والغوص مختص بجزيرة سيلون والبحرين وعمان وخازك والبحر الأحمر وخليج المكسيكا) في إشارة منه الى عمق هذه المهنة التي تعتمد المغامرة في حياة أهل البحرين، وكانت تعاليم الإسلام قد فتحت لأهل البحرين مغاليق هذه المهنة الشاقة بعد ان آمنوا بالسعي الى الرزق والتفاني في العمل، وهذا التحول في اتجاهات مهنة الغوص عزز من اقتصاد البحرين الأمر الذي جعلها تعيش في بحبوحة اقتصادية في العصور الإسلامية المختلفة. أما في الجانب الروحي من الحياة وفي مجال الإبداع والجمال خاصة ومنه موضوع البحث (الشعر)، نجد ان البحرين غالبًا ما كانت رائدة في التلقي والتفاعل مع الانماط الجديدة في الشعرية العربية وكان لشعرائها الريادة في نظم قصيدة التفعيلة في الخليج العربي كما امتاز شعراؤها بشدة الحساسية للمتغيرات الجديدة واستيعاب وهضم التحولات الجديدة في الإبداع والجمال حتى أن رسالة القصيدة البحرينية تختلف من حيث التوجهات عن الطابع الوصفي الذي ساد الشعر الخليجي في عقود ما بعد الخمسينات من القرن العشرين فهي ليست قصيدة مترفة ولا شعراءها هواة، بل أصحاب قضايا كبيرة تلتحم مع الهم الإنساني والعربي، وهذه المزية هي نتاج الجغرافيا والتاريخ الطويل أيضا وتقع في إطار الوعي المرن الذي تحدثنا عنه، إذ توشح الوعي الإنساني في البحرين بثقافة التفاعل والافادة المتبادلة مع الآخر، ويعود السبب في هذه البنية الخاصة كما أرى إلى أن الثقافة البحرينية لم تتعامل مع ذاتها على انها مركز (كما تنظر بقية الثقافات الى ذاتها)، بل نظرت الى ذاتها على انها حاصل تفاعل إنساني بين عنصري الحضارة (الموقع البحري المتمثل بجغرافيا الجزر وما ينتج عنه من التقاء الحضارات، ولحمة الامتداد الثقافي العربي مع اليابسة في شبة الجزيرة العربية). ولما كانت منطقة شبة الجزيرة العربية ترى في ثقافتها مركزًا للثقافات الأخرى بسبب ظهور الأنبياء وتتابع الأديان وعلاقات الند مع الحضارات الأخرى، وتبني دعوات الأنبياء في أرضها والتشريعات والنظم والقوانين التي تحمل صفة الهية (كما نصت عليها الكتب السماوية) فإن فكرة الامتداد الثقافي التي هيمنت على ثقافة البحرين جعلته بمنأى عن مركزة ثقافته في وعي الآخر والاكتفاء بالتفاعل المرن مع المنجز الإنساني وهذا الأمر هو الذي جعل حساسية تلقي الآخر ممكنة وسلسة، فالبحرين لم تعشْ عقدة المركز وانما عمدت إلى الحفاظ على التقاليد الراسخة بطريقة متوازنة مع المتغيرات التي تجري في الحياة، وانفتحت على الثقافات الآخرى واستطاعت استيعابها وهضمها فعقدة المركز والتشبث بالمنجز وعدم الاكتراث للآخر ومحاولة فرض المنجز الخاص على العام، لا تحرك الوعي الجمعي لمجتمعها ولا الحساسية الجمالية لمبدعيها، ولكن هذا لا يمنع ريادتها في بعض جوانب الإبداع والجمال في الثقافة والأدب، ومن أمثلة ريادتها في مجال الأدب نشير إلى أن هذه البلاد عرفت الريادة في نظم شعر البند مع عدد من المناطق العربية... يعد شعر البند واحداً من أهم لحظات القطيعة التاريخية مع القصيدة التقليدية في الشعرية العربية، لأنه استطاع التحول الى مرحلة النمط ونسج على منواله شعراء كثيرون، وتكمن القطيعة في هذا النمط في قضايا جوهرية في الشعرية العربية منها الوزن والقافية والتشكيل البصري، وكان شعراء البحرين من أوائل شعراء العربية ممن نظموا على بحوره وتفعيلاته ومنهم (جلال الدين عبد الرؤوف الموسوي الجد حفصي والسيد خليل بن علوان) ، وفي هذا الصدد يؤكد عدد من المهتمين بالتاريخ الأدبي ومنهم مصطفى جمال الدين ان شعر البند أول ما وجد في جنوب العراق وفي البحرين ومنطقة الاهواز ونظم هذا النمط من الشعر عدد من الأدباء تغلب عليهم الثقافة الدينية والمقدرة الشعرية الخاصة ويكتب (البند) بتفعيلة الرمل صافية او بتفعيلة الهزج وقد تمتزج التفعيلتان فيه، وهذه الانتقالة في مزج البحور هي التي جعلت من ابتكار شعر البند حدثاً مهماً وغير عابر في الشعرية العربية، لأنه يمثل أخطر خروج على التقليد كما يمثل التمرد الأهم في بناء القصيدة التقليدية، وقد وصفه الباحث العراقي عباس العزاوي بقوله، إن البند أشبه ما يكون بالنظم إلا أنه أقرب إلى النثر وهو حلقة وسطى بينهما إذ أن لا كلفة فيه لأنه لا يلتزم القافية ويمكن أن يكون بداية الشعر الحر، وهذا يعني أن القافية لم تعد مؤسسة قارة في البيت أو السطر الشعري، وأن فكرة تحرير الشعر من نظام الشطرين أصبحت ممكنة لهذا السبب عبرت نازك الملائكة عن إعجابها بهذا النمط وأشارت في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) إلى الجانب الإبداعي فيه بقولها: (إن البند شعر ذو وزنين لا وزن واحد، وهذان الوزنان يتداخلان على شكل غريب وفيه لمسة ذكاء). وعلى الرغم من البنية المتمردة لهذا النمط فقد نسج على منواله شعراء البحرين منذ وقت مبكر من ظهوره على الرغم من اشكالات الوعي الجمالي العربي في تلقيه وموقف بعض الباحثين والنقاد من امكانات تمثيله الشعر أم لا، فهناك من يرى في هذا النمط بأنه ليس بشعر صافٍ، وإذا كان هذا التمرد قد وجد استجابة سريعة عند شعراء البحرين فإنه يشير إلى مستوى الاستجابة السريعة في هذه الثقافة للتحولات المهمة في العملية الإبداعية العربية، وهذه الاستجابة تنطلق من الثنائية الأساس في تلك الثقافة والمتمثلة بمرونة الوعي وتكييفة عملية الحفاظ عل الهوية في التحديات. وعلى هذا الأساس نجد بواكير الحداثة في الخليج العربي بدأت من البحرين في جوانب الإبداع والثقافة وتذكر الدكتورة ضياء الكعبي: (إن للأدب البحريني خصوصية لها علاقة بالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي فمجتمع البحرين منفتح منذ أقدم العصور ومتحرر نسبيًا كما انه ملتقى لهويات مختلفة متعددة ولا تجد فيه حواجز بين المرأة والرجل) جاء ذلك في محاضرة ألقتها الباحثة في دمشق، وهذه حقيقة تميز الأدب في البحرين، فهناك مشاركة واضحة جداً للمرأة البحرينية في انتاج الإبداع والجمال، ويمكن تعليل هذه المشاركة الفعالة والتفاعل الإنساني بين الرجل والمرأة في مجال الأدب والمجالات الأخرى بمحدودية عدد السكان والموارد معًا، الأمر الذي جعل المجتمع يستثمر كل كفاءاته لإنتاج الخيرات المادية والروحية ومنها الإبداع الأدبي، هذا فضلاً على الحرية المتاحة لمشاركة المرأة في الحياة والعمل في هذه البلاد. والملاحظ أن القصيدة النسوية في الإمارات تتمركز في قصيدتي التفعيلة والنثر، وقد يكون التعليل الأولي لهذا الاندفاع يعود الى سهولة الكتابة فيهما، ولكن هذا التعليل لا يمكن أن يكون وافياً ومقنعاً لسببين الأول: ان قصيدة التفعيلة ربما تكون أكثر صعوبة من نظم قصيدة الشطرين بسبب متغيرات تشكيلتها البصرية وعدم اعتمادها القوالب المستقرة، والثاني: ان معظم المشهد الشعري البحريني من دون تمييز في الجنس يكتب على منوال النمطين (التفعيلة والنثر). ولهذا يعد شعر التفعيلة الذي انطلق في نهاية الستينات وبداية السبعينات في البحرين المهيمن الرئيس على القصيدة البحرينية الحديثة، أما قصيدة النثر فقد بدأت بعد عقد التسعينات من القرن العشرين بالتوغل عميقاً في الشعرية العربية عامة والبحرينية خاصة، وهذا التوغل يستلزم رؤية نقدية خاصة في قراءة المشهد الشعري البحريني، وتنبع الخصوصية من تحول أهم شعراء التفعيلة في البحرين الى قصيدة النثر، وسنقدم دراساتنا عن شعراء البحرين في مقالات لاحقة وندرس أنماط القصيدة وتحولاتها من خلال النصوص لكي تأخذ الدراسات جانبها التطبيقي.

مشاركة :