تبدو حملات الاعتقال والتنكيل التي تبعت محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا في 15 تموز (يوليو) الجاري، خير دليل على وصول نموذج الإسلام السياسي المعتدل الذي حاول حزب «العدالة والتنمية» تقديمه منذ اعتلائه السلطة في 2002، إلى طريق مسدود. فبدلاً من أن يعتبر أردوغان محاولة الانقلاب العسكري فرصة لإصلاح أخطائه في الحكم، فيتوقف عن قمع الصحافة وتكميم الأفواه وتخوين معارضيه ويجمع فرقاء الوطن خصوصاً في ظل الاستقطاب القائم بين الإسلاميين والعلمانيين والذي يهدد هوية وأيديولوجية الدولة التركية العلمانية، قام بفصل نحو 20 ألف أكاديمي وعشرات الآلاف من الموظفين المدنيين، إلى جانب عزل عشرات القضاة والعسكريين، ملوحاً بإعادة العمل بعقوبة الإعدام التي ألغيت في 2004 في إطار سعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفي خطابٍ ألقاه أخيراً، هدَّد أردوغان شعبه بإسقاط الجنسية التركية عنهم وترحيلهم واستبدالهم بآخرين من العرب المحبين له، حال تمردهم أو قيامهم بثورة أو انقلاب جديد ضده! في ثنايا ردود أفعال أردوغان تكمن أسباب أفول نجم الإسلام السياسي، إذ يستمر الرئيس التركي في الاستخفاف بمطالب خصومه بل والقضاء عليهم بلا هوادة وإعاقة الديموقراطية من خلال إعلان حالة الطوارئ والاستعانة بأصحاب الثقة الموالين له لدعم سيطرته على السلطتين التشريعية التنفيذية في البلاد. كما أن المكاسب الاقتصادية، التي طالما تباهى بها أردوغان وحزبه، ليست بمنأى عن الخطر في ظل تفاقم الوضع الأمني بسبب ضربات «داعش» في العمق التركي والحرب التي يخوضها الجيش التركي مع حزب العمال الكردستاني في جنوب البلاد، ما يؤثر في تركيا كدولة جاذبة للاستثمار والسياحة. ومن المثير للتأمل أن تجارب الإسلام السياسي في دول شرق أوسطية أخرى مثل مصر وتونس، قد باءت أيضاً بالفشل. في مصر سلك «الإخوان المسلمون» في تجربتهم السياسية سلوكاً مدفوعاً بهاجس الاعتراف بهم، وبسعيهم الحثيث للوصول إلى السلطة منذ تأسيس الجماعة، وعلى يد زعمائها أمثال حسن البنا وسيد قطب اللذين اعتبرا الوصول إلى الحكم من العقائد والأصول لا من الفقهيات والفروع وأن تراخي الإسلاميين عن المطالبة بالحكم يعد جريمة إسلامية، ما برَّر العنف في مواجهاتهم مع الآخر من خلال التكفير والإقصاء وأحياناً القتل. وبوصول «الإخوان» إلى الحكم في مصر، فشلوا أيضاً في تحقيق تحول في عقلهم الوضعي الانتقائي المبني على الانتهازية بمعناها الشامل وعلى التبعية والميل نحو الانفراد بالرأي الواحد والاستئثار بالسلطة وفقاً لمفهوم مكيافيللي بحت. أما في تونس، فقد فشل حزب «النهضة» في حل المشاكل الاقتصادية المتفاقمة وتقديم برامج ناجزة لإدارة الدولة وتنظيم أمورها بصورة شاملة بدلاً من أسلوب إدارة الجمعيات والمؤسسات الخيرية الذي برعوا فيه طويلاً قبل اندلاع الثورة، ما أدى إلى عدم رضاء المواطنين وتأجيج الاستقطاب الاجتماعي، وتعزيز فرص المعارضة في النجاح في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في عام 2014 وتشكيل حكومة تكنوقراط. أما في غزَّة، فمنذ أن سيطرت «حماس» على السلطة في 2007، نجد أنها فشلت في التحول من حركة مقاومة إلى سلطة مدنية قادرة على إدارة شؤون المجتمع وفقاً لخطط مدروسة وفاعلة. بل إن سنوات حكم «حماس» التي اتصفت بقمع الحريات والأداء الاقتصادي المتدهور، جعلت المواطنين يترحمون على أيام حكم حركة «فتح»، وإن اتسمت بالفوضى والفساد. لعل الأمثلة السابقة تدفع الذين راهنوا على الإسلام السياسي إلى إعادة النظر في علاقة الدين بالسياسة وإدراك أن النظام السياسي الناجح هو الذي يؤسس للديموقراطية الوطنية التي تقوم على التعايش وتداول السلطات والعدالة الاجتماعية والمواطنة وضرورة إبعاد الدين عن ساحة المساومات السياسية، ليبقى واجباً يمارس في دور العبادة، حفاظاً على نقاء التعاليم الدينية وسموها عن صراعات السلطة وألاعيبها. * كاتبة مصرية
مشاركة :