لم تصمد في بيروت الأجواء التي أوجت باقتراب إحداث اختراق في جدار المأزق السياسي - الدستوري من بوابة انتخاب رئيس جديد للجمهورية في أغسطس المقبل أو قبل نهاية السنة الجارية، إذ تبخرت وسريعاً تلك المناخات التي بدت «مفتعلة» أساساً، حتى إن المشهد «التفاؤلي» يكاد ينقلب رأساً على عقب عشية ثلاثية الحوار الوطني التي تبدأ بعد غد وتستمر حتى الخميس وعلى طاولتها مشروع صفقة شاملة لحلٍّ يتناول رئاسة الجمهورية وقانون الانتخاب والحكومة المقبلة برئيسها وتوازناتها وآليات عملها وبيانها الوزاري. وارتبط سقوط السيناريوات الافتراضية عن حلحلة وشيكة في الاستحقاق الرئاسي المعلق منذ عامين ونيف بتطورين بارزين: * الأول من طبيعة إقليمية يطال عصفها الداخل اللبناني، وتتمثل في الهجوم المتجدد وغير المسبوق في حدّته الذي شنّه الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله على القيادة السعودية، الأمر الذي ردّ عليه زعيم «تيار المستقبل» الرئيس سعد الحريري بهجوم معاكس، ما يشي بازدياد حدة الاستقطاب الداخلي وجنوحه نحو المزيد من التشنج في مقاربة الحوار والرئاسة والمسائل الأخرى. * الثاني من طبيعة داخلية وتجلّى في مغزى خروج المرشح الرئاسي النائب سليمان فرنجية، ومن على منبر رئيس البرلمان نبيه بري، ليعلن مضيه في السباق حتى الدقيقة الأخيرة، كاشفاً أن لا نصرالله ولا الرئيس السوري بشار الأسد في وارد الطلب منه الانسحاب، مشيراً الى أن ليس من عادة الحريري (الداعم له) التراجع عن مواقفه. ومن غير المستبعد أن يكون أصاب الوجوم زعيم «التيار الوطني الحر» العماد ميشال عون نتيجة هذين التطورين، وهو المرشح الأبرز للرئاسة الذي دأب فريقه على الترويج لأجواء توحي بقرب اكتمال النصاب السياسي - الدستوري لانتخابه. ومردّ هذا الوجوم قد يكون: * أن عون، مرشح «حزب الله»، وتالياً إيران، والذي كان يسعى الى تليين الموقف السعودي حياله، ستكون مهمّته أكثر صعوبة مع إصرار نصرالله على رفع مستوى المواجهة مع الرياض التي كال كلاماً قاسياً بحق مسؤوليها، ولا سيما وزير خارجيتها عادل الجبير. * رغم المعطيات التي تحدثت عن مناقشات تجري داخل «تيار المستقبل» في شأن إيجابيات وسلبيات الانفتاح على العماد عون والانخراط في تفاهُم قد يفضي الى تبني ترشيحه، فإن التموْضعات الداخلية ذات الامتداد الإقليمي تحمّل زعيم «التيار الوطني الحر»، حليف «حزب الله»، وزر مواقف نصرالله وتُضاعِف المصاعب في وجه تبني ترشيحه، خصوصاً في ضوء عدم قدرته على التمايز وهو الذي حرص على التأكيد أكثر من مرة على «تكامله الوجودي» مع الحزب. * التعاطي مع كلام فرنجية عن تطابق وجهات النظر مع بري في شأن الاستحقاق الرئاسي «مئة في المئة» على أنه أزال الغبار السياسي الذي أشيع حول إمكان تبديل موقف بري المناهض لترشيح عون بعد «التفاهم النفطي» بينهما، والذي جرى تسويقه على أنه محاولة من عون لكسر الجفاء مع رئيس البرلمان. واللافت أن حجم الاشتباك الإقليمي الذي عكسه هجوم نصرالله على السعودية ومفاجأة فرنجية جاءا بعد ما كان أشاعه كلام الحريري عن إمكان انتخاب رئيس للجمهورية قبل نهاية السنة الجديدة، وهو الكلام الذي راوح التعاطي معه بين حدّيْن: * أن القصد منه ترييح الواقع السياسي عبر إشاعة أجواء تفاؤلية في الوقت الضائع ما دام الانتظار سيد الموقف في ظل غياب لبنان عن شاشة الرادار الإقليمي والدولي. * ترْك الأبواب مفتوحة أمام المناقشات الدائرة في شأن المفاضلة بين السيئ والاسوأ في مقاربة الاستحقاق الرئاسي، أي على قاعدة تجرُّع «السيئ» عبر تبني ترشيح عون، لتفادي الأسوأ المتمثل بالفراغ الذي يريد استمراره «حزب الله». وكُشف النقاب في هذا السياق عن أن أوساطاً في «تيار المستقبل» تتبنى هذه المفاضلة التي تعتبر تبني ترشيح العماد عون نقطة الارتكاز للتوصل الى تسوية شاملة تحدّ من الخسائر المتوالية التي يمنى بها الحريري المحاصَر بأزمات مالية وتنظيمية تفاقمها حال الانتظار والمراوحة. وتطالب هذه الأوساط، في سياق المناقشات الدائرة داخل «المستقبل» بضرورة الخروج من المنطقة الرمادية، إما الى مواجهة شاملة وإما الى تسوية شاملة، لاعتقادها أن الانتظار بات مكلفاً لتياره الذي يعاني أوضاعاً غير مريحة وأزمات لا يمكن التقليل من شأنها. وإذا كان الموقف المعلن لـ «تيار المستقبل» يقوم الآن على الإمساك بورقة فرنجية بيد من دون إسقاط ورقة الحوار مع عون من اليد الأخرى، فإن دوائر مراقبة في بيروت تقلل من شأن الحراك الداخلي في لحظة إقليمية لاهبة وتزداد تأججاً وكان آخر مظاهرها الانقلاب المتجدّد للحوثيين في اليمن، ما وضع المفاوضات الجارية في الكويت في مهب الريح. هذا الانطباع سيكون الحاضر الأبرز مع انعقاد ثلاثية الحوار الوطني التي يديرها بري، ويحوطها «خوْفان»: خوف من فشلها، وهو الأمر الذي يضع البلاد أمام مرحلة غامضة، وخوف من نجاحها لما ينطوي عليه الأمر من مقايضات تشكل طعنة لاتفاق الطائف.
مشاركة :