لم تكن محاولة الانقلاب الأخيرة في تركيا مجرد نبت شيطاني زرعه أشرار متآمرون يقيم زعيمهم في بنسلفانيا. ولا يوجد مثل هذا النبت في الغالب الأعم إلا في خيال من ينكرون الواقع أو يزيفونه. نبتت تلك المحاولة في أجواء مضطربة ومتوترة لأسباب داخلية، وليس لعوامل إقليمية – دولية فحسب. وكان لولع الرئيس رجب طيب أردوغان بالحكم الفردي المطلق، إلى جانب طموحه الإقليمي الزائد عن حده، دور أساسي في اضطراب الأوضاع وتوتّرها. وفي أحيان كثيرة، تكون السلطة الفردية في الداخل صنو النزوع إلى الهيمنة في المحيط. لذلك اقترن تنامي النزعة الفردية لدى أردوغان برهانه على قيادة إقليمية بدت له في المتناول، خلال لحظة صعد فيها الإسلام السياسي في المنطقة، وقفز على ثورات «الربيع العربي» وانتفاضاته. لم يراجع الرئيس التركي توجّهه هذا حين تهاوى رهانه الإقليمي بسرعة نتيجة سقوط حكم جماعة «الإخوان» في مصر، وعودة حركة النهضة في تونس خطوتين أو أكثر إلى وراء، ونجاح نظام الأسد في عسكرة الانتفاضة السلمية وإغراقها في محيط العنف والإرهاب، وتحويلها حرباً داخلية وإقليمية. وعلى رغم المعارضة التي أحبطت سعي أردوغان إلى تعديل دستوري في شأن نظام الحكم، استغلّ هيمنته على حزب «العدالة والتنمية» الحاكم لممارسة سلطة تتجاوز بكثير صلاحياته في الدستور الحالي، وفرض قيوداً على المعارضة أدت إلى تعطيل مسار التطور الديموقراطي الذي كان مُبشراً حتى بداية العقد الجاري. وكان هذا جزءاً من السياق الذي أقدم فيه انقلابيون هواة على محاولة انقلاب أو بالأحرى مغامرة انقلابية منحت أردوغان فرصة لتكريس الحكم الفردي. لذلك هو يبدو بعد أسبوعين منتصراً وحيداً الى حين، قادراً على قيادة انقلاب سياسي على الدستور والديموقراطية. ولا تختلف تركيا حين تمضي مجدداً في هذا الاتجاه، عن البلدان العربية التي أُقيمت فيها «جمهوريات» ليس لها من اسمها نصيب، ولا عن إيران التي ألغت ولايةُ الفقيه رسمياً وليس فقط فعلياً الجمهوريةَ المذكورة في اسمها. يشبه الرئيس التركي رؤساء عرباً حاليين وسابقين مفتونين بالسلطة المطلقة التي يسميها بعضهم نظاماً رئاسياً، وهم يمارسون حقيقةً حكماً فردياً. وعندما يردد أنه يريد نظام حكم رئاسياً، فهو يصنع مرادفة لا أساس لها بين هذا النظام والحكم الفردي المطلق. كما يغفل عن أن هذا الحكم أعاد في العقود الأخيرة، بلداناً في الشرق الأوسط إلى ما قبل العصر الحديث، الذي شرعت في الالتحاق به في فترات مختلفة خلال القرنين الماضيين. كما كان الحكم المطلق السبب الرئيسي الذي أتاح لإسرائيل إثبات أنها «جزيرة ديموقراطية» لأن مؤسسيها نأوا بها عن شرور هذا النوع من الحكم. والحال أن لا صلة بين الحكم الفردي المطلق المنتشر في المنطقة، والنظام الرئاسي الذي يقوم على توازن دقيق بين السلطات الموزّعة بحساب ووفق قواعد تهدف إلى ضمان عدم طغيان أي منها على غيرها. وسلطة الرئيس في النظام الرئاسي على أصوله، مقيدة بصلاحيات واسعة للبرلمان، الذي يملك الحق في الاعتراض على تعيين عدد كبير من الموظفين التنفيذيين بعد الاستماع إلى كل منهم ومناقشته وتقييمه. كما أن في إمكان البرلمان أن يسائل الرئيس، ثم يحاكمه، أو يحيله على تحقيق قضائي، كما حدث أخيراً على سبيل المثل للرئيسة ديلما روسيف في البرازيل. ونظراً الى ضعف الثقافة الدستورية في منطقتنا، يشيع اعتقاد في أوساط نخب حاكمة وغيرها بأن صلاحيات رئيس الجمهورية في النظام الرئاسي، أوسع منها في أي نظام حكم آخر. لكن النظام شبه الرئاسي هو الذي يتيح للرئيس صلاحيات أوسع مقارنة بالنظام الرئاسي، إلا حين يحصل حزب أو ائتلاف يعارضه على الغالبية في البرلمان. ولكن، لا النظام الرئاسي، ولا النظام شبه الرئاسي، يمنح الرئيس حكماً فردياً مطلقاً من النوع الذي أخذ أردوغان بممارسته فعلياً في السنوات الأخيرة، ويريد «دسترته» عبر إجراء تعديل في الدستور. فهذا الحكم الشائع في الجمهوريات الشرق الأوسطية لا يمت بصلة إلى أي من نظم الحكم الدستوري المعروفة في الدول الديموقراطية لعالمنا. وفي كل من هذه النظم مؤسسات يتباين أداؤها بين بلد وآخر، ومرحلة وغيرها. ويمكن أن يضعف أداؤها، أو تتجمد وتستعصي على التطور في لحظة أو أخرى، فيفقد قطاع واسع أو ضيق في المجتمع الثقة بها. لكنها تعمل في ظل نظام دستوري محدد المعالم ومحترم على نحو يضع سقفاً لأي تدهور عام يترتب على ضعف أدائها أو جمودها، بخلاف الحال في ظل الحكم الفردي المطلق. فهذا الحكم ليس نظاماً دستورياً، ناهيك عن أن يكون رئاسياً أو شبه رئاسي. ومع ذلك، ما زال الولع به مستمراً لأن ضحالة الوعي العام توحي بأنه أقدر على ضمان الأمن وتحقيق الاستقرار، وتحول دون إدراك زيف الادعاء بضرورته لعملية التنمية والتحديث، وتؤدي إلى إغفال أنه لم يورد البلاد التي تسلّط عليها إلا موارد التهلكة. ويعيد أردوغان الآن إنتاج الادعاء بأفضلية ما يسميه نظاماً رئاسياً، وهو ليس إلا حكماً فردياً مطلقاً، لضمان الاستقرار والأمن وتعزيز الازدهار وتحصين وحدة الدولة. والمفارقة أن تركيا كانت أكثر استقراراً وأمناً وازدهاراً وقابلية للتقدم، في السنوات العشر الأولى لحكم حزب العدالة والتنمية، حين كان نظام حكم شبه برلماني ما زال منصوصاً عليه في دستورها المنتهك. وما أن تحول أردوغان من رئاسة الحكومة إلى رئاسة الجمهورية، وأخذ في الاستحواذ على صلاحيات تُمكِّنه من ممارسة حكم فردي، حتى تراجع ما أمكن تحقيقه في السنوات السابقة في هذه المجالات كلها وغيرها. فويل لتركيا التي قدمت حتى وقت قريب ما بدا أنه نموذج جيد يختلف عن السائد في الجمهوريات العربية وإيران. فهي مهددة اليوم بازدياد أخطار الحكم المطلق بمقدار ما تغري أردوغان نشوة الانتصار على الانقلابيين بإضعاف المؤسسات وخنقها بقبضة من حديد، في الوقت الذي تتداعى بلاد عربية خنقتها مثل هذه القبضة من قبل.
مشاركة :