ترفض السلطوية الحاكمة الاعتراف بالهاوية التي زجت الوطن إلى حافتها، وتدفع أذرعها التبريرية، إن في الإعلام المدار أمنياً أو في الجامعات المسيطر عليها أمنياً أو في السلطة التشريعية المشكلة أمنياً أو في المؤسسات الرسمية الخاضعة لطغيان المكون النظامي (العسكري والأمني والاستخباراتي) على المكونات المدنية والبيروقراطية، إلى صياغة خطاب متهافت ومشوّه يزعم الانتصار على "أعداء الوطن" ومواجهة "المتآمرين على الدولة وأمنها واقتصادها" والوقوف "صفاً واحداً" لتحقيق "إنجازات اقتصادية واجتماعية كبرى" ويضفي هالات بطولة زائفة على الحاكم الفرد/البطل المخلص الذي جادت به الأقدار على المصريات والمصريين كرئيس الضرورة. تصيغ الأذرع التبريرية مثل هذه المقولات المتهافتة والمشوهة وتروج لها في عرض البلاد وطولها، ويرددها كتاب وأكاديميون ارتضوا تحالفاً فاوستياً مع شيطان السلطوية نظير الحماية من القمع أو أملاً في عوائد خدمة السلطان. أما حقائق القمع والانتهاكات ووقائع الظلم والفساد، فلا وضعية لها في خطاب السلطوية الحاكمة غير الإنكار تارة والتبرير تارة أخرى. يسقط ضحايا لجرائم القتل خارج القانون التي تتورط بها الأجهزة الأمنية المصرية، فينكر وجودهم بداية ثم يبرر قتلهم بتعميم هوية الإرهابيين وإلصاقها بهم. يسقط ضحايا لجرائم تعذيب ممنهج في أماكن الاحتجاز وخارجها، فينكر حدوث التعذيب بداية، ثم يبرر تحت ضغط مجموعات الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات كتجاوزات فردية غير عمدية. يسقط ضحايا لسطوة الأمن على المواطن والمجتمع وللعصف بسيادة القانون ويزج بهم إلى حبس احتياطي لا حدود زمنية نهائية له أو لعمليات تقاضي لا تصون مقتضيات العدالة وضمانات الحقوق والحريات، فتستدعى مقولات "حماية أمن الوطن والحفاظ على سلامة الدولة ومواجهة المؤامرات المحيطة بنا"، لتبرير سلب حرية آلاف المصريات والمصريين. تتراكم الأزمات البيئية والاقتصادية والاجتماعية وتأخذ إما أبعاداً حادة من أزمة مياه النيل إلى الأزمة النقدية أو تستمر دون تحسن كما في معدلات الفقر والبطالة والتهميش وانهيار مستويات الخدمات التعليمية والصحية وخدمات التأمينات، فتنتج السلطوية، ممثلة في الحاكم وفي الأذرع التبريرية، خطاباً إضافياً ذا طبيعة خيالية عن "الإنجازات الكبرى"، وتأتي ببعض مكوناته من دولاب السلطوية القديمة التي حكمت مصر بين ١٩٥٢ و٢٠١١ (شبكات الطرق التي تم الانتهاء منها، والمشروعات الاقتصادية الكبرى التي بدأت، والأراضي الصحراوية التي استصلحت، والمجمعات السكانية التي تم تشييدها في لمح البصر). وعلى هوامش خطاب السلطوية الخيالي يدفع بالمسؤولية عن عدم شعور المصريات والمصريين "بالنتائج المبهرة للإنجازات الكبرى" باتجاه الحكام السابقين الذين تركوا "الدولة كأطلال دولة أو كشبه دولة" وتجاهلوا "التنمية المستدامة" أو باتجاه الإخوان المتآمرين وعملاء الطابور الخامس. يتصاعد الاستقطاب المجتمعي على وقع اقتراب المظالم والانتهاكات من دوائر الحياة اليومية للكثير من المصريات والمصريين، وعلى وقع الاحتجاجات السلمية المتزايدة للعمال والطلاب والشباب ولقطاعات مهنية متنوعة. فينفى كل ذلك تارة بتوظيف أوهام الزعامة والتفرد التاريخي لبطل مخلص يدعي امتلاك الحق الحصري للحديث باسم الوطن (حملتني مصر برسائل إليكم) ويدير يومياتها مكون عسكري-أمني لا تعنيه حريات أو قانون، وتارة برمزية اصطفاف وطني مجرد من المضمون ويزج إلى حواشيه بمقولات فاشية تصنف كل مطالب بالحق والحرية وكل معارض سلمي للسلطوية كخائن وعميل. لم تتوقف الماكينة الدعائية للسلطوية عن إطلاق وعود "الإنجازات الكبرى" ومطالبة الناس بوضع ثقتهم في "البطل المخلص" الذي سيأتي منفرداً بالأمن والاستقرار ويقضي على الإرهاب ويحقق التقدم الاقتصادي ويحسن الظروف المعيشية للجميع. لم تتوقف تلك الماكينة الدعائية، وإلى داخلها زج بوسائل الإعلام العامة المدارة حكومياً ووسائل الإعلام الخاصة المملوكة لرؤوس أموال تربطها بالسلطوية ثنائية التأييد نظير ضمان العوائد الاقتصادية والمالية والحماية من التعقب، عن إنكار حدوث المظالم والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان والحريات التي شملت جرائم القتل خارج القانون والتعذيب والاختفاء القسري بجانب سلب الحرية لأسباب سياسية وفكرية وشملت أيضاً العنف اليومي للأجهزة الأمنية إزاء المواطن. لم تتوقف الماكينة عن صناعة الأعداء وإطالة قوائم الخونة وإدراجهم جميعاً وفقاً لنظريات مؤامرة مريضة (من حروب الجيل الرابع والمؤامرة الأميركية لهدم الدولة المصرية إلى مجلس إدارة العالم المسؤول عن توجيه الزلازل والأعاصير والبراكين إلى بلدان دون غيرها ومنظمات حقوق الإنسان الغربية التي تخضع لسيطرة جماعة الإخوان المسلمين)، إما في الخانات المخصصة للاستهلاك المحلي والإقليمي مثل الإخوان الإرهابيين وخلايا الإخوان النائمة والطابور الخامس من الحقوقيين والمدافعين عن الحريات، أو في الخانات المخصصة للاستهلاك العالمي مثل الإدارة الأميركية المتواطئة مع الإخوان، والغرب المتآمر على الدولة المصرية والحكومات الإقليمية التي تنفذ الأجندة الغربية. على الرغم من شمولية الماكينة الدعائية للسلطوية الحاكمة، بدأت تدريجياً قطاعات من المصريات والمصريين تكتسب حصانة الإدراك الواعي والعقل الراجح ضد ماكينة السلطوية، وشرعت في مغادرة مواقع التهليل لوعود إنجازات تتناقض مع ظروف معيشية تتدهور ووضعية أزمة اقتصادية واجتماعية ومالية متصاعدة، وفي تنحية الصمت على المظالم والانتهاكات الواسعة جانباً، والامتناع عن قبول تمريرها وتبريرها بإلصاق هوية إجرامية زائفة بمعارضي سلطوية تمارس هي العنف وترتكب هي الجرائم. وها هي هذه القطاعات من المصريات والمصريين تبتعد عن تصديق نظريات المؤامرة وادعاءات الخيانة، بعد اكتشاف فساد إلقاء مسؤولية فشل السلطوية على أعداء متوهمين في الداخل والخارج. اليوم تنتقل قطاعات المصريات والمصريين الناجين من تزييف الوعي، وإن قل عددها، إما إلى عزوف عن مجمل الشأن العام دللت عليه المشاركة الشعبية المحدودة للغاية أو إلى التعبير العلني عن رفض السلطوية والاحتجاج على سياساتها وشيء من مقاومة ممارساتها وقراراتها خارج سياقات الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وخارج الدوائر التقليدية لليمين واليسار والإسلام السياسي. تطول الاحتجاجات السياسات الاقتصادية مثل استثمار الموارد المحدودة في "مشروعات كبرى" تثور بشأنها العديد من التساؤلات حول الجدوى الفعلية. تطول أيضاً الممارسات القمعية كالتعامل مع النقابات المهنية كنقابة الأطباء ونقابة الصحفيين، ووقائع العنف اليومي المتكرر للأجهزة الأمنية ضد المواطنات والمواطنين قتلاً خارج القانون وتعذيباً وانتهاكاً للكرامة، والعصف الممنهج بسيادة القانون وبضمانات التقاضي العامل بمواصلة سلب حرية آلاف الناس. تدريجياً يتحول انتقال أعداد متزايدة من الناس بين العزوف وبين الاحتجاج على السلطوية إلى تبلور مقاومة أقلية مؤثرة تتثبت من ضعف وفشل السلطوية الحاكمة، وتفضح عبر شبكات التواصل الاجتماعي والوسائط الإعلامية المستقلة الحقائق المفزعة للمظالم والانتهاكات، وتشرع في البحث عن بدائل ديمقراطية بعيداً عن يمين ويسار ساوما السلطوية طويلاً وإسلام سياسي يرفض المراجعة والاعتراف بالخطايا. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :