لا شك في أن الكاتب الإيطالي إغناتسيو سيلوني كان يفكّر بثلاثة أشخاص، على الأقل، فيما كان منكبّاً على تدوين تلك الحوارات الأربعة عشر التي سيتشكل منها كتابه «مدرسة الديكتاتوريين» الذي وضعه ونشره في العام 1958، لكنه لم يحظ لدى نشره، للأسف، بذلك النجاح الذي كان سيلوني يتوخاه. وهؤلاء الأشخاص هم: ستالين ، موسوليني، وماكيافيللي، من دون أن ننسى الطاغية النازي هتلر في الأحوال كافة. ولئن كان قد قيل في حينها أن سيلوني قد صفّى حسابه في الكتاب مع الطغاة الثلاثة الذين خطروا في باله، فإنه كان يريد من كتابه أيضاً أن يكون امتداداً في شكل أو في آخر لكتاب «الأمير» لماكيافيللي الذي يبدو ظلّه مخيماً، ولو في شكل كاريكاتوريّ على الكتاب من دون أن يحمل الكثير من أفكاره. كانت الأفكار التي يحملها مستمدّة بالأحرى من «أوبو» ألفريد جاري. > يتألف الكتاب إذاً من تلك الحوارات الوهمية التي تدور بين رجلين أميركيين يُروى لنا أنهما قصدا أوروبا في العام 1939 والقارة العجوز تتهيأ لدخول أتون الحرب العالمية الثانية، وغايتهما أن يتعلما من القارة العجوز، - التي كانت حينها ترزح تحت ربقة العديد من الديكتاتوريات، يميناً ويساراً وبين بين، الى جانب الديكتاتوريتين الكبيرتين الستالينية والنازية/ الفاشية -، كيف يكون الحكم الديكتاتوري بهدف تطبيقه في الولايات المتحدة. وذلك لأن الأول بين الرجلين، وهو السيد «دابل في»، كان يتطلع الى أن يرسخ في بلاده حكماً «ديكتاتوريّاً رائعا» يكون مستشاره فيه رفيق سفره العالم العلامة المسمى «بروفسور بيك آب». وهكذا إذ يصل الرجلان الى زيوريخ في سويسرا المحايدة يلتقيان من فورهما بـ «توماس اللئيم»، وهو مناضل إيطالي ضد الفاشية يعيش هنا منفياً بعد أن حصل على اللجوء السياسي. ولما كان سيادة البروفسور المستشار بدوره رجل علم وفكر سياسي، كما حال توماس اللئيم، بدا من الطبيعي أن يحاول السيد دابل الاستفادة من خبرته لاستكمال الدرس السياسي المفيد الذي سيساعده في الوصول الى كرسي الديكتاتورية الأميركية العتيدة. وهكذا تدور بين الثلاثة تلك الحوارات التي تؤلف متن الكتاب. وغالبيتها تتناول مسائل الحكم والقمع الشائكة، في استفادة تامة من التجارب التي عايشها توماس اللئيم من خلال دنوّه من الستالينية سابقاً، وتصدّيه للنازية/ الفاشية لاحقاً. > إذاً، يتحاور الجهابذة الثلاثة وكل منهم من موقعه في أربع عشرة جلسة هي التي تشكل متن الكتاب المليء بمواقف وأفكار من الواضح أنها تشكل خلاصة تجربة المؤلف نفسه، والتي يستعيدها هنا في ذلك العقد الستيني من عمره، حيث كان مجده الأدبي قد استقرّ بعض الشيء، وبات عليه الآن أن يكتب ما يفسر، بل يبرر تقلباته الماضية التي حولته من الكاتب الاشتراكي الممجَّد بفضل رائعته «فونتامارا»، الى كاتب لا يهتم إلا بفضح الممارسات الستالينية. أما مشكلة سيلوني فقد كمنت حينها في أن الشيوعيين الإيطاليين الذين كانوا قراءه الأساسيين ما كانوا في حاجة إليه كي يفضح لهم ما كان أصلاً مفضوحاً بالنسبة إليهم، حيث من المعروف أن الحزب الشيوعي الإيطالي كان من السباقين الى فضح الستالينية، ناهيك بنضاله الطويل ضد كل أنواع الفاشيات، ومن هنا بدت زوبعة «مدرسة الديكتاتوريين» زوبعة في فنجان، لم تمكّن صاحبها من استعادة مجده السياسي الذي كان قد غرب. > مهما يكن من أمر، إذا استثنينا ألبرتو مورافيا الذي يعتبر، في جميع الأحوال، أشهر كاتب أنجبته إيطاليا في القرن العشرين، من دون أن يترتب على ذلك، بالطبع، اعتباره أفضل كتّابها، سيكون في إمكاننا أن نعتبر إغناتسيو سيلوني واحداً من الكتاب الإيطاليين الذين عرفهم قراء العالم بأسره أكثر من غيرهم، إذ منذ العام 1930 حين صدرت روايته الأشهر «فونتامارا» (في ترجمة ألمانية قبل أن تصدر بالإيطالية) وترجمت الى عشرين لغة على الفور، تلقف مئات الألوف من القراء أدب سيلوني وقرأوه بنهم وانتظروا بشغف صدور كتبه ورواياته التالية، التي كانت سرعان ما تترجم الى شتى اللغات بدورها. > غير أن هذا النجاح لن يمنعنا من طرح سؤال أساسي يقول: مهما كان الأمر، هل يمكن اعتبار إغناتسيو سيلوني كاتباً كبيراً حقاً؟ في هذا المجال، وكمحاولة للرد على هذا السؤال، يمكن المقارنة بين ألبرتو مورافيا وإغناتسيو سيلوني، انطلاقاً من أن هذين الكاتبين الإيطاليين الأشهر لم يُقرآ على نطاق واسع بسبب جودة أدبهما، بقدر ما قُرآ بفضل ما يقف في خلفية ذلك الأدب: العامل الجنسي لدى مورافيا، والعامل السياسي لدى سيلوني. فالحال أن قراء هذا الأخير، كان أشد ما يجذبهم إليه العامل السياسي وعنصر التمرد الأيديولوجي، الطاغيين على كتبه. وسيلوني، على عكس ما قد يخيّل لكثر، لم يبدأ حياته كاتباً وأديباً، بل بدأها كمناضل سياسي. وهو حتى حين اختار لنفسه اسماً مستعاراً (إغناتسيو سيلوني) بدلاً من اسمه الحقيقي (سيكوندو ترانكويللي)، إنما اختار اسماً ثائراً انتفض يوماً ضد الرومان. ولقد عبّر سيلوني في معظم كتبه عن معاركه السياسية، وربما كان هذا ما جذب إليه ألوف وعشرات ألوف القراء في زمن كان الحلم الاشتراكي لا يزال يداعب خيال المثقفين. > سيلوني، الذي افتتح حياته بمأساة هزة أرضية قضت على أبيه وأخوته، نشأ لدى أسرة متواضعة ريفية هو المولود في العام 1990 (يوم الأول من أيار/ مايو كما كان يحب دائماً أن يشير)، وكان من الطبيعي له في بلد يعتاش من التمرد والسياسة (الريف الإيطالي) أن ينخرط في العمل النقابي والسياسي باكراً، حتى أصبح رئيساً للشبيبة الاشتراكية. وحين تأسس الحزب الشيوعي الإيطالي خلال مؤتمر ليفورنو في 1921، انضم إليه سيلوني مع أعضاء شبيبته الاشتراكية ليصبح بعد حين، الى جانب غرامشي وتولياتي، واحداً من قادة الحزب، وهذا ما اضطره في 1928 إثر صعود الفاشية، للهرب لاجئاً الى سويسرا. بعد ذلك، في 1930 عندما اشتدت قبضة ستالين على الاتحاد السوفياتي وبدأ الحبل يشتد من حول رقبة تروتسكي، وقف سيلوني مدافعاً عن هذا الأخير، هو الذي يعرف موسكو والحياة الحزبية فيها في شكل جيد، فكان أن طُرد من الحزب الشيوعي في 1930، وهو العام نفسه الذي أصدر فيه روايته الأولى «فونتامارا» التي تتماشى مع مزاجه السياسي والفكري لتلك المرحلة. > وقد سجلت تلك الرواية بداية حياة سيلوني الأدبية، وكذلك بداية المرحلة الأولى من المراحل الثلاث التي تشكل، وفق مؤرخي حياته، مجمل مساره الأدبي: مرحلة المنفى (حيث كان يعيش في سويسرا وأصدر نحو عشرة كتب، منها ما هو رواية وما هو مجموعة قصصية وما هو دراسة)، ثم مرحلة المنفى داخل الوطن (عاد الى إيطاليا في العام 1945)، لكن الأوساط اليسارية الأدبية تجاهلته بسبب عدائه للحزب الشيوعي، بينما تجاهلته الأوساط اليمينية انتقاماً من ماضيه، وأخيراً مرحلة التكريس ابتداء من 1965، وهي المرحلة التي تمكن فيها من أن يفرض نفسه ويجتذب الى أدبه وكتاباته الأخرى قراءً إيطاليين بدأوا يقرأونه بلهفة وسط مناخ كانت الأيديولوجية قد بدأت تبتعد منه. ومنذ تلك اللحظة، بدأ سيلوني ينال الجوائز والتكريم، وصارت مجلة «الزمن الراهن» واحدة من المجلات المقروءة أكثر من غيرها في الأوساط المثقفة. و»الزمن الراهن» هي المجلة التي أسسها سيلوني وراح يدافع فيها عن مواقفه ويتابع معركته ضد شتى أنواع الجمود الاأديولوجي. > إذاً، منذ إعادة اعتباره أواسط الستينات، وحتى رحيله عام 1978، فريسة المرض والإجهاد، صار سيلوني مَعْلماً من معالم الحياة الثقافية الإيطالية حتى وإن كان قد كف عن أي نشاط خلال العقد الأخير من حياته. ساعد على ذلك كتابان أخيران نشرهما وكانا أشبه بوصية سياسية، أولهما بعنوان «باب الخروج» (1965) وفيه يروي حكايته مع الحزب الشيوعي الإيطالي، وثانيهما «مغامرة مسيحي مسكين» (1968) وفيه يروي، بدلالة لم تفت قراءه، حكاية البابا سيليستين الخامس، الذي كان البابا الوحيد في تاريخ الكنيسة الذي استقال من منصبه في العصور الوسطى. ومن بين أشهر كتب سيلوني الأخرى: «خمر وخبز» (1936)، «رحلة الى باريس» (1934)، و «سر البحيرة» (1956)، علماً أن أحداث معظم رواياته كانت تدور في أوساط الفلاحين البائسين الذين تفنّن دائماً في الحديث عنهم.
مشاركة :