يسود الاعتقاد أننا نجد أنفسنا اليوم نعيش في مرحلة عبّر عنها الروائي الروسي ليو تولستوي بوصف الاقتراح الوبائي، الذي تبدو معه الإنسانية حبيسة نوع من التنويم المغناطيسي الجماعي، الذي لا يمكن لقوة في العالم أن تقهره. أما إن كان أحدهم يتصور أن الكلمات التي أكتبها أو التي يكتبها غيري واصفاً جنوح العالم نحو سياسات العنف، قد تقتلع هذا الاقتراح الوبائي من الجذور، فإنه أشبه بغارق في أحلام اليقظة. ويتغذى هذا النوع من الانفجارات بطبيعته الجهنمية على كل شيء بما في ذلك الغضب، ذاك الوحش المتراخي الذي لا يشبع. وتكمن التحذيرات بالخطر في التأفف المغرور للذين يصب في مصلحتهم تفسخ النظام الآيل قريباً للسقوط، في واقع يتطلب التحرك، وحيث الأكاذيب أصبحت الحقيقة الجديدة، وبات المشهد أقوى من المضمون، والعالم بأسره مقلوباً رأساً على عقب. وتشبه الكتابة في ظل هذه الأجواء تسيير قارب في قلب العاصفة. لكني سأظل أكتب طالما أن للكلمات شيئاً من المعنى. التاريخ يصنع ولا يدرّس يبدو أننا على وشك أن نودع العالم كما نعرفه اليوم، وكأننا نطل على نهاية فصل قصير بدأ عام 1945، واتسم بسلام نسبي بالمعايير التاريخية للأحداث. إذ شهد بناء نظام عالمي قائم على القوانين، مدعّم بمعرفة عميقة بأصول الدمار، ووعي كبير لمعنى الحرب المحتملة. وتضمن نظام ما بعد الحرب بناء مؤسسات جديدة، ونشوء معاهدات وتحالفات وحتى قيام اتحادات بين الدول الأوروبية المعتادة على سفك الدماء. وسطّر نهاية تلك الحقبة احتلال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإقليم القرم عام 2014، في خطوة مزقت إرباً سلامة الأراضي الأوكرانية، وشكلت انتهاكاً مباشراً للمادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة. إلا أن تلك الحادثة لم تشكل بعينها نذيراً ببداية الانهيار، بقدر ما فعلت الأكاذيب المرافقة لها. وقد لجأ الاتحاد السوفييتي عام 1931 إلى اعتماد شعار اثنان زائد اثنين يساوي خمسة. وساق بوتين، الذي يعتبر نتاجاً سوفييتياً خالصاً، الأكاذيب حيال الحصار الغربي المزعوم لروسيا، واستحالة فكرة وجود قوات وعتاد روسية في شرق أوكرانيا واعتبارها مجرد ضرب من خيال العالم. ويذكر هذا بجورج أورويل، الذي قال يوماً: من وجهة نظر شمولية للعالم، فإن التاريخ يصنع ولا يدرّس. وينضم إلى نادي بوتين المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب، الذي أوضح أنها: لن تكون هناك أكاذيب في مقدمة خطاب صارخ غير مصقول زاخر باللا حقيقة المعلنة من على منصة مطعّمة بالذهب على امتداد 76 دقيقة. إلا أن ترامب لا يقف وحيداً، حيث نشهد حركة فكرية عالمية. وكما قال جون لانكستر في مقال له، أخيراً: لا أعتقد أنه تسنى الوقت للسياسيين البريطانيين في ظل تشدق كثيرين على ساحة الحياة العامة بأمور يدركون أنها ليست صحيحة. بين بوتين وترامب من المؤكد، أن ترامب يتطلع إلى بوتين، وحسب قول أورويل، فإن: الشمولية تتطلب في الواقع التبديل الدائم للماضي، بل وتقتضي على المدى البعيد ربما إنكاراً لوجود الحقيقة الموضوعية. بوتين ليس شمولياً لكنه مجبول على الشمولية، والظروف التي نعايشها اليوم لا تشبه ظروف الثلاثينيات. إلا أن ترامب يركب موجة النشاز المضلل للتكنولوجيا، وحالة التحلل المتزايد التي تسود المجتمعات غير المتكافئة، وشعور الإحباط الذي يعانيه الملايين ممن أصبحت حياتهم رديفاً للتداعي، وضغوط العولمة والهجرات الجماعية والقلاقل العرقية وتفشي الإرهاب والتقويض الثابت للحقيقة. وبذور الاستبدادية الجديدة. ويستند ترامب على نقطة قوة يتباهى من خلالها بأنه يمثل التغيير خلافاً لمنافسته هيلاري، وهو يحرص على إرفاق اتهام كلينتون بالكذب بتعييرها بأنها غير جديرة بالثقة. وهو مرشح صاحب حظوظ وافرة بالفوز، وكل من ينكر هذا الواقع لم يفهم بأن الاقتراح الوبائي لا شيء يقف في وجهه. لقد كشفت الرغبة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي تعطشاً إلى التعطيل بأي ثمن. وشكلت دعماً لقفزة أميركية محتملة نحو مجهول يأتي بترامب إلى الرئاسة، ويسطّر نهاية حقبة ويمثل خطراً محدقاً بالجمهوريين والعالم. أكاذيب أتت الجدالات الناجحة لحملة انسحاب بريطانيا من بوتقة الاتحاد الأوروبي مبنية على سلسلة من الأكاذيب. واحتل بوريس جونسون الذي وصف بالدجال الأكثر صخباً في التسويق للأكاذيب منصب وزير خارجية بريطانيا. وأصبحت الحقائق اليوم مجرد أثر عتيق يعود لزمن الخطابات العقلانية، ومصادر إزعاج تافهة خنقت بسهولة. الصوت المرتفع يتفوق على الحقيقة، على حدّ ما أوضح روجر إيلز مدير محطة فوكس نيوز الأميركية . ها هو ترامب المتنمر الذي يتقن وضع مشهديات الهستيريا الجماعية يطل على العالم، ويعد بأنه الوحيد القادر على وضع الأمور في نصابها،وأنه دون سواه قادر على فهم الأبعاد الهائلة للخطر.
مشاركة :