كان العباس بن عبدالمطلب قد أسر يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب، خرج بها معه إلى بدر ليطعم بها الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام أهل بدر، فأخذت منه، وأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، قال فكلمت رسول الله أن يجعل لي العشرين أوقية التي أخذها مني فداء، فأبى علي، وقال: «أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا»، وكلفني فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية من فضة، فقلت له تركتني والله أسأل قريشا بكفي والناس ما بقيت، قال: «فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل قبل مخرجك إلى بدر، وقلت لها إن حدث بي حدث، فهو لك ولعبد الله والفضل وقثم»، قلت وما يدريك؟، قال: «أخبرني الله بذلك»، قال أشهد إنك لصادق، وإني قد دفعت إليها بالذهب ولم يطلع عليه أحد إلا الله، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قال العباس فأعطاني الله خيرا مما أخذ مني، وأعطاني عشرين عبدا كلهم يضرب بمال كثير مكان العشرين أوقية، وأنا أرجو المغفرة من ربي، وأنزل الله فيه قوله: «يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم، وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم»،«الأنفال 70 و71». قال ابن العربي، لما أسر من أسر من المشركين تكلم قوم منهم بالإسلام ولم يمضوا فيه عزيمة ولا اعترفوا به اعترافا جازما، ويشبه أنهم أرادوا أن يقربوا من المسلمين ولا يبعدوا من المشركين. وقال الشوكاني في «فتح القدير»، خاطب الله النبي صلى الله عليه وسلم، قل لهؤلاء الأسرى الذين هم في أيديكم أسرتموهم يوم بدر، وأخذتم منهم الفداء، إن يعلم الله في قلوبكم خيرا من حسن إيمان، وصلاح نية، وخلوص طوية يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء، يعوضكم في هذه الدنيا رزقا خيرا منه، وأنفع لكم، أو في الآخرة بما يكتبه لكم من المثوبة بالأعمال الصالحة، ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. ولما ذكر ما ذكره من العوض لمن علم في قلبه خيرا، ذكر من هو على ضد ذلك منهم، فقال، وإن يريدوا خيانتك بما قالوه لك بألسنتهم من أنهم قد آمنوا بك وصدقوك ولم يكن ذلك منهم عن عزيمة صحيحة ونية خالصة، بل هو مماكرة ومخادعة، فليس ذلك بمستبعد منهم فإنهم قد فعلوا ما هو أعظم منه، وهو أنهم خانوا الله من قبل أن تظفر بهم، فكفروا به وقاتلوا رسوله فأمكن منهم بأن نصرك عليهم في يوم بدر فقتلت منهم من قتلت وأسرت من أسرت والله عليم بما في ضمائرهم حكيم في أفعاله بهم. وقال محمد رشيد رضا في تفسير المنار، هاتان الآيتان متمتان للكلام في أسرى بدر بأمر النبي بترغيبهم في الإسلام ببيان ما فيه من خيري الدنيا والآخرة، وبتهديدهم وإنذارهم عاقبة بقائهم على الكفر وخيانته صلى الله عليه وسلم، ويتضمن ذلك البشارة بحسن العاقبة والظفر له ولمن اتبعه من المؤمنين، قل للأسرى الذين أخذتم منهم الفداء إن يعلم الله في قلوبكم إيمانا كامنا بالفعل، أو بالاستعداد الذي سيظهر في إبانه أو كما يدعي بعضكم بلسانه، يعطكم خيرا مما أخذ منكم. والله غفور لمن تاب و رحيم بالمؤمنين، والمراد بهذه الرحمة الخاصة التي تشمل سعادة الآخرة، وأما الرحمة العامة فقد وسعت كل شيء، وهذا ترغيب لهم في الإسلام ودعوة إليه.
مشاركة :