هل أصبحت الدار الدنيا محل جزاء في فقه التكفيريين بدل الآخرة إلغاء شرط الإمامة في مسألة الجهاد التي يختلف فيها ـ أصلا ـ تفسير العلماء والفقهاء الأكفّاء، عن تفسير أصحاب العقيدة التكفيرية، هذا الإلغاء الذي عمد إليه منظرو الحركات الجهادية، يعطي الضوء الأخضر للجماعات الإرهابية لممارسة القتل باسم الدين، وهو ما يتعارض مع جوهر الإسلام والحكمة الإلهية في مسألة الخلق واختلاف الديانات. العربإدريس الكنبوري [نُشرفي2016/12/07، العدد: 10478، ص(13)] الإمامة في عرفهم لا توجد إلا لإعلان الجهاد من العوامل التي ساعدت على بروز ظاهرة السلفية الجهادية في عصرنا، وانتشار جماعات العنف والتشدد، وظهور التكفير، مسألة الجهاد وعلاقته بالإمام. فالتيار القتالي ـ الذي يطلق على نفسه تسمية التيار الجهادي ظلما ـ يؤسس قضية الجهاد على قاعدة محسومة لديه، وهي أنه لا يجب فيه شرط الإمام، بل الجهاد لديه فرض يمكن أن ينهض به أي شخص أو جماعة لمسوغات معينة وفي أي وقت. ولذلك نجد أن هذا التيار ركز في أدبياته المتعلقة بالقتال على إلغاء شرط الإمامة في الجهاد. وقد ألف أبوالوليد الغزي الأنصاري، أحد منظري هذا التيار، كتابا تحت عنوان”سل الحسام لإبطال شبهة لا جهاد إلا بإمام”، يستند عليه الجهاديون والمتطرفون في عدم العمل بإذن الإمام في الجهاد. يرى الأنصاري أن هناك مسألتين مختلفتين: الأولى هي وجوب تنصيب الإمام، والثانية هي وجوب القتال معه وبإذنه، وأنه طالما ليس هناك إمام يجوز القيام بالجهاد دون شرط الإذن، ذلك أن عدم وجود الإمام لا يعني سقوط “فريضة الجهاد”، الذي يعتبره “عبادة من العبادات وتكليفا من التكاليف الشرعية”. أما مفهوم الإمام لديه فهو الإمام الذي تتبع له الأمة بكاملها، أي الإمام “الذي تجتمع عليه كلمة الأمة”. وهذه الفكرة هي الفكرة المنتشرة في أوساط التيار الجهادي برمته، وهي التي يؤسس عليها مشروعه القتالي اليوم. والتناقض الموجود لدى هذا التيار أنه يتحدث عن إمام للأمة كلها، لكن الجماعات المنضوية فيه يقاتل بعضها بعضا وتتبع أمراء مختلفين متقاتلين في ما بينهم. الأنصاري يرى أنه طالما ليس هناك إمام يجوز القيام بالجهاد دون شرط الإذن، فهو "عبادة وتكليف شرعي" فمن جهة، هم يقولون بأن الإمام غير موجود حتى يتم الجهاد تحت رايته، ثم يعينون إماما لهم؛ ومن جهة ثانية هم يقولون بضرورة وجود الإمام الأوحد للأمة الواحدة، ولكنهم ينصبون أئمة وأمراء كثيرين. وقد حسم العلماء والفقهاء قديما وحديثا قضية إذن الإمام في الجهاد. ففي عهد النبوة كان النبي صلى الله عليه وسلم هو من يعلن الحرب، وفي العهود التي تلت كان الخلفاء والأمراء في الدولة هم الذين يعلنونها، وفي الدولة الحديثة فإن رئيس الدولة هو من يقوم بإصدار الأوامر في السلم والحرب. وإذا كان من الصعب تقدير أسباب الحرب والعدوان، وتقدير المصالح والمفاسد بالنسبة إلى الجميع، فإن ولي الأمر هو الذي يقدر المصلحة العامة للمسلمين والأسباب الموجبة للحرب، ويلزم الرعية طاعته، كما قال بذلك عدد من العلماء القدامى. وذكر ابن قدامة في كتاب “المغني” أن “أمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده، ويلزم الرعية طاعته”.غير أن العلماء ميزوا بين الجهاد الدفاعي لرد العدوان، أو قتال الصائل، والجهاد الهجومي، ولم يشترطوا في النوع الأول إذن الإمام، لأن البلاد تكون تحت الاحتلال أو الاغتصاب، ولا يكون هناك إمام يمكن الرجوع إليه، أو يرفض الإمام إعطاء الإذن بالقتال، وفي هذه الحالة فإن الجهاد يصبح فرض عين على الجميع. وهذا ما حصل في التاريخ الحديث في مختلف البلدان الإسلامية مثلا التي كانت واقعة تحت الاستعمار، فقد كان المقاتلون والمتطوعون والمجاهدون يلتحقون بالمقاومة لأن السلطة المركزية كانت ضعيفة أو غير موجودة، وكان لا بد من المقاومة لإخراج المحتلين، وقد جاء في”المغني” لابن قدامة “ولأنهم إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين، فوجب على الجميع، فلم يجز لأحد التخلف عنه. وإذا ثبت هذا فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير، لأن أمر الحرب موكول إليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقلتهم، ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يُرجع إلى رأيه، لأنه أحوط للمسلمين، إلا أن يتعذر استئذانه، لمفاجأة عدوهم لهم، فلا يجب استئذانه، لأن المصلحة تتعين في قتالهم”. أما الجهاد الهجومي، أو جهاد الطلب، فهو مشروط بإذن الإمام أو رئيس الدولة أو ولي الأمر الذي يتولى مسؤولية الولاية على الناس، وقد رأينا أعلاه في كلام ابن قدامة قوله “فإنهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير، لأن أمر الحرب موكول إليه”. واشتراط الأمير لدى الفقهاء مرده ضرورة ضبط موضوع الجهاد حتى لا يصبح حالة من الفوضى أو أن يدعيه بعض الفرق والجماعات المتمردة كما حصل مع الخوارج على سبيل المثال في العصر الأول للإسلام وغيرها من الجماعات في العصور التالية، ولكي لا تنتشر الفتنة، وهو ما يستفاد من كلام ابن قدامة السابق “لأنه أحوط للمسلمين”، أي أضمن لوحدتهم وعدم تفرقهم والمانع من انتشار الفتنة وشق الطاعة على ولي الأمر باسم الجهاد. بيد أن التيار الجهادي يخلط بين النوعين من أنواع الجهاد المذكورين، جهاد الدفع الذي يكون في حالة تعرض المسلمين للعدوان، وجهاد الطلب الذي يكون بغزو المسلمين لبلدان أخرى، وبمعنى آخر القتال الذي يكون عدوانا من المسلمين على غيرهم. إنهم يرون أن جهاد الطلب أمر مرغوب فيه، وفي هذا الإطار يقول عبدالله بن ناصر الرشيد في كتابه “فقه الجهاد”، “فإن من مقاصد الجهاد في سبيل الله الدعوة إلى الله، وإدخال الناس في دين الله سبحانه، وبذل المؤمنين نفوسهم في سبيل أن يدخل الناس الإسلام. علماء قدامى يرون أن الأصل هو إبقاء الكفار وتقريرهم لأن الله ما أراد إفناء الخلق ولا خلقهم ليقتلوا وهذا الحكم المحكم الواضح، من وجوب ابتداء المشركين بالقتال ودعوتهم إلى الإسلام، مما أجمعت عليه الأمة دون مخالف يعرف في القديم”، فهو يشير إلى “وجوب ابتداء المشركين بالقتال”، وفي نفس الوقت يربط ذلك بـ”دعوتهم إلى الإسلام”، وكأن الإسلام جاء ليفرض على الناس اعتناقه بالقوة والعنف. ويرفض عدد من الفقهاء القدامى والمعاصرين هذا الرأي الذي ينص على نشر الإسلام بالقوة والسيف، وغزو الكفار والمشركين في ديارهم لنشر الدين. يقول العلامة الدكتور وهبة الزحيلي “ولكن ليس معنى بقاء فرضية الجهاد هو أن الحروب دائمة وقائمة على قدم وساق مع غير المسلمين، وأنه هناك حالة عداء مستمر مع بقية الشعوب، وأن الحرب تعلن بمناسبة وبغير مناسبة، والجهاد نزاع دائم بين الإسلام والشرك، وعقوبة تنزل بأعداء الإسلام، وأن الإله هو للمسلمين خاصة، ولا يسود السلام حتى يتبع العالم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. كل هذا غير صحيح، فالجهاد وإن بقي على الفرضية، فإنه أداة عاقلة في يد القائد المسلم، وليس وسيلة طائشة تستعمل للسيطرة على العالم”. ويزعم التيار الجهادي، كما رأينا عند عبدالله بن ناصر الرشيد في الفقرة المذكورة أعلاه، أن جهاد الطلب لنشر الإسلام ومحو الكفر “مما أجمعت عليه الأمة دون مخالف يعرف في القديم”. هناك أقوال كثيرة لعلماء قدامى في المسألة، بينها قولة لابن الصلاح ورد فيها، “إن الأصل هو إبقاء الكفار وتقريرهم لأن الله تعالى ما أراد إفناء الخلق ولا خلقهم ليقتلــوا، وإنما أبيح قتلهم لعارض ضرر وُجــد منهم، إلا أن ذلك ليس جزاء لهم على كفرهم، فإن دار الدنيا ليست دار جزاء، بل الجزاء في الآخرة”. :: اقرأ أيضاً تحالف السلطتين الفقهية والسياسية وراء خسوف التيار الصوفي في إيران
مشاركة :