يمكن القول بكل اطمئنان لصحة ما نقول: الموضوعية هي أن تصدر أحكامك حول الواقع منزهة عن الرغبة والهوى، وبالتالي الموضوعية هي صفة للأحكام وليس صفة للواقع، لأن الواقع موضوع مستقل عن الذات. ولكن هيهات في عالم السياسة والجمال والأدب والفكر أن يصل الإنسان إلى حالة يكون فيها موضوعياً، لأن كل هذه العوالم تخضع لموقف ذاتي، ومن هنا نرى الأحكام المتناقضة، بل والمتضادة، حول واقعة واحدة وحدث واحد. ومع ذلك فإن العقل لا يستطيع أن يحطم تحطيماً كلياً الموضوعية في وصف الحوادث والوقائع وفهمها وإلا فقد الإنسان علاقته بالواقع وصار أقرب إلى الحمق منه إلى التفكير. وإذا ما سادت حال كهذه الحال في ثقافة مجتمع ما فاقرأ على هذا المجتمع السلام. وإذا كان صحيحاً أن خرق مبدأ الموضوعية ظاهرة لا ينجو منها أحد لا في الغرب ولا في الشرق غير انه قد شاعت في العالم العربي، وبخاصة في عالم الفهم للوقائع السياسية، ظاهرة موت الموضوعية، بصورة لا مثيل لها في التاريخ، حتى إن المرء ليندهش من الحد الذي وصلت إليه الإطاحة بالموضوعية. دعونا عن الأطراف الداخلة في صراعات ونزاعات مباشرة جداً والتي لا يمكنها أن تكون موضوعية في أحكامها وخطابها، وتأملوا أحكام وخطابات المحللين والتأويليين والإخباريين المتعلقة بالصراعات عندها سترون صدق ما قلناه حول موت الموضوعية. ففي اليمن، على سبيل المثال، هناك صراع على تحديد مستقبل اليمن السياسي ونظام الحكم هناك بين فريق يسعى لقيام دولة طبيعية، تقوم على سيادة الدولة، واحتكارها للقوة وأجهزة حماية نفسها ونظام حكم يمثل جميع فئات المجتمع المدني تمثله الشرعية من جهة، وفريق يسعى لفرض سلطة حاكمة باستخدام القوة المسلحة الميليشياوية تمثلها جماعة الحوثي وبقايا قوات عسكرية موالية لحاكم سابق يمثله عبدالله صالح من جهة ثانية. هذه هي الواقعة موضوعياً في داخل اليمن. فكيف لمثقف أو محلل سياسي أو لباحث أن يقلب الواقعة رأساً على عقب، لا شك إن من يقلب الأمر ليس إلا شخصاً عقله في إجازة مرضية. وقس على ذلك ما جرى في تركيا، فما جرى هو محاولة فاشلة لانقلاب عسكري على نظام سياسي وعلى سلطة حاكمة بفعل نجاحها في انتخابات ديمقراطية. هذا ما حصل بشحمه ولحمه مهما كانت طبيعة انحيازاتنا الأيديولوجية. فما معنى أن يطل علينا خطاب ينكر هذه الواقعة ليتحدث عن دكتاتورية الحاكم وما شابه ذلك. والحق إن باستطاعتي أن أضرب عشرات الأمثلة على ظاهرة موت الموضوعية لدى كثير من الخطابات حول الوقائع السورية واللبنانية والعراقية والليبية الخ. والصورة الأكثر خبثاً في قتل الموضوعية تبرز في نفي الأسباب وتجاهلها والحديث فقط عن نتائجها، فيصبح الحديث عن النتائج مدخلاً لتبرئة الشروط التي أنتجتها وأصحابها. في الوقت الذي لا نستطيع أن نعزل النتائج عن الأسباب في أية ظاهره حين نسعى للفهم والتفسير. والحق إننا هنا أمام ظواهر ووقائع موضوعية، ولسنا أمام موضوعات جمالية أدبية تابعة للتذوق الذاتي، فالاختلاف حول جمالية برج إيفل راجع لاختلافٍ في الذوق، والأمر نفسه ينسحب على الشعر والفن التشكيلي، ومع ذلك فإن قرأنا حكماً عند أحد النقاد يقول بأن المعري ليس شاعراً فلسفياً فإننا نحكم على صاحب قول كهذا بعدم الموضوعية. وهذا يعني أن حتى الظاهرة الجمالية تحتاج إلى حظ من الموضوعية، فما بالك بالوقائع على الأرض.
مشاركة :