الشارقة: محمد أبو عرب ليس غريباً أن يتحول الشاعر الكبير الراحل محمود درويش إلى علامة لافتة في الفن التشكيلي العربي، فهو الشاعر الذي تجاوز قميص القصيدة ليصبح شخصية كونية إنسانية، تشير إلى الندوب التي خلفها التهجير والاحتلال، وتفتح الباب على حقيقة وجودنا، عشاقاً، ومتعبين، ومسافرين، وقتلى، وحائرين.. الخ. لذلك أنتجت الحركة التشكيلية العربية من وحي تجربة درويش، أيقونة تكثف شغف الحياة، وسيرة الأوطان، وشاعرية الوجود، فكان درويش بكامل وجوده الشعري والشخصي، موضوعاً لسلسلة من الاشتغالات البصرية التي تشكل نصوصاً مرئية موازية لسيرة الشاعر وسيرة قصائده. تفتح تلك الجهود التشكيلية القائمة على التجربة الدرويشية الباب كاملاً على المسار الذي حفره درويش في القصيدة العربية، والانعطافة التي أحدثت فارقاً جذرياً في مجرى القصيدة هذه القصيدة، وحركة تطورها، فما كرسه درويش من حياة وجهد للقصيدة كان كفيلاً ليحقق منجزاً راسخاً، تتكامل في بنائه المرجعيات الثقافية العميقة، مع جماليات اللغة الصافية، وانتهاءً بذكاء تكوين الصورة الشعرية، وتحقيق المفارقة المحكمة، كأن يكثف الوجود، فيقول: هو الحب كذبتنا الصادقة. تقدم كل تلك الغزارة والحياة التي تتنامى فيها التجربة الدرويشية، مبرراً، لحجم الاشتغال التشكيلي الذي وفرته تجربته الشعرية، فلم يكن بورتريه درويش التكوين الجمالي الدلالي الوحيد الذي وظفه الفنانون في عملهم على سيرته، وإنما تحول منجزه الشعري إلى فضاء مشرع على التخييل والتأويل، لفتح الجملة الشعرية على ما يقابلها من صورة مرئية. ليس ذلك وحسب، وإنما صارت الكثير من العبارات الشعرية الدرويشية تكوينات حروفية، حاضرة في الأعمال المسندية، ومنحوتة في تكوينات معدنية وحجرية، إضافة إلى جملة الأعمال الفنية الرقمية التي راحت تماهي بين بورتريه درويش ونصوصه، وتحول القصائد إلى ما يشبه البوسترات الوطنية، والعاطفية. وواقع الأمر أن الجهود البصرية ونماذج التجارب التشكيلية العربية التي استوحت أو استلهمت الحالة الدرويشية، هي كثيرة ومتنوعة، ولا يمكن الحديث عن حضور درويش في التشكيل بصيغة عامة فضفاضة، إذ لكل فنان رؤيته وأسلوبه، وتقنياته، إلى الحد الذي يتعدد درويش بصرياً بتعدد الفنانين الذين تناولوا تجربته. مقابل ذلك، لا يمكن الحديث عن هذا الحضور باعتباره حضوراً كلياً، فالاشتغالات على حالته تنوعت بين الاشتغال على النص في سياقه الحروفي، وبين تحويل العبارة الشعرية إلى تكوين بصري مواز لها، إضافة إلى الذين اشتغلوا على البورتريه أو شخصية درويش. واحدة من التجارب اللافتة التي يمكن التوقف عندها، تجربة الأخوين عامري، جهاد، ومحمد، الذين قدما مشروعاً بصرياً في النص الشعري لدرويش، إذ اشتغل محمد العامري على ديوان أثر الفراشة، بكل محمولاته الشعرية ليعيد إنتاج هذه المحمولات تشكيلياً على سطح اللوحة، فيما عمل جهاد العامري على قصيدة أحد عشر كوكباً، فاتحاً بذلك دلالات بصرية جديدة قوامها العلاقة بين النص الشعري، والعمل الفني، والمكان الأندلسي. طرح العامريان في معرضهما، الذي ضم خمس عشرة لوحة تحت عنوان أشقاء في الصورة - تحية إلى روح محمود درويش، واحدة من الأطروحات التي سبق أن اشتغلا عليها في تجاربهما الفنية، والمتمثلة في العلاقة بين اللوحة والنص الشعري، وهو اشتغال جمالي على إنتاج النص البصري الموازي للوحة والنص الشعري معاً، في محاولة منهما لفتح مسار جديد في تلقي النص الشعري والعمل الفني، حيث يصبح لكل من اللوحة والنص نافذة جديدة لقراءته. حضرت في أعمال العامريين، جهود كثفت الحالة الدرويشية، ففي الوقت الذي اختار محمد العامري تحويل النص إلى علامات تجريدية مرئية تكشف مساراته وترسم معالمه لونياً، اشتغل جهاد العامري على النص والبورتريه الشخصي لدرويش، مستخدماً تقنيات الحفر والطباعة، والشاشة الحريرية لتحقيق جملة من العلاقات البصرية بين النص والكتلة واللون. الأمر ذاته أقدم عليه أستاذ الفنون الجميلة في جامعة كولورادو الأمريكية البروفيسور جورج ريفيرا، حيث زار متحف محمود درويش، واطلّع على إبداعات الشاعر، وقصائده عن المقاومة، وعاد إلى بلاده ومعه عدد من كتب الشاعر المترجمة. اختار ريفيرا أن يتلمس مفهوم المقاومة في شعر درويش بصرياً، فأخذ القصائد، وعمل عليها مع مجموعة من طلاب كلية الفنون الجميلة في الجامعة الأمريكية لفترة طويلة، مقدماً نحو 33 لوحة فنية، وعرضت في معرض فني كشف معالجات الفنانين للحالة الدرويشية. كشفت تلك الأعمال الفنية عن حالات بصرية وجمالية تجلى فيها درويش برؤى غربية، إلا أن حديث البروفيسور ريفيرا يضع درويش في مساحة الأيقونة البصرية المتمثلة في كل نتاجه الشعري وحضوره الشخصي، حيث قال: أن تعرف محمود درويش، يعني أن تعرف فلسطين، لقد عشت في هيوستن حيث أمضى درويش أيامه الأخيرة، لم أكن أعرفه، لكن بعدما زرت متحفه في رام الله بت أعرفه وأعرف مكانته في قلوب الفلسطينيين. يشير ذلك إلى العلاقة بين درويش الشاعر، ودرويش الرمز، فأن يتحول الشاعر إلى رمز هو قضية تمثل محور الإشكاليات التاريخية العربية الحديثة، يعني أن يتجاوز اللوحة المسندية والعمل النحتي، وكل أشكال الفنون التقليدية، ليصل إلى فنون الشوارع، والملصقات، وغيرها من أشكال التعبير عن الهوية، حتى فنون الوشم، والقلائد، والأساور وغيرها. لنا أن نتأمل الجهود الفنية التي قدمها فنانو الشوارع في عدد من البلدان العربية، كجماليات رسوم المقاومة التي أنجزها فنانون فلسطينيون على الجدار العازل في فلسطين، ولنا أن نتأمل أيضاً ما قدمه الفنان اللبناني، يزن حلواني من جداريات ضخمة في أزقة العاصمة اللبنانية بيروت وتجسد شخصية الراحل درويش، محققاً بذلك العلاقة بين النص والصورة، والشخصية والرمز، ومعيداً إلى الشارع اللبناني سيرة رموز ثقافية تركت أثراً واضحاً في التاريخ الإنساني العربي. الأمر ذاته طرحه مهرجان جداريات أزمور للفن التشكيلي إذ اشتغل عدد من الفنانين على الحالة الدرويشية شعراً وشخصية ورمزاً، فقدموا جداريات توظف مختارات من قصائده، ويحضر فيها بورتريه شخصي له. كل ذلك لا يروي الحكاية الحقيقية التي يرويها فلسطينيون عن درويش وهو في الأراضي المحتلة، فرمزيته كلها تتكثف لديهم في قوله: حاصر حصارك لا مفر.. اضرب عدوك لا مفر/ حاصر حصارك لا مفر.. اضرب عدوك لا مفر/ سقطت ذراعك فالتقطها.. وسقطت قربك فالتقطني/ قتلاك أو جرحاك/ قتلاك أو جرحاك.. فيك ذخيرة/ فاضرب بها/ اضرب بها/ اضرب بها/ عدوك. يكتب فتية الشوارع في فلسطين سيرة نضالهم وصمودهم، فيرسمون قامته كاملة على الجدار العازل، وكأنهم يفتحون نافذة يطلون منها على بلادهم المنهوبة، وبيوتهم التي ينام فيها الغرباء، فلا يكاد يمر العابر على الجدار العازل، إلا ويلمح درويش بلمعة عينه الحاذقة وهدوء ملامحه الشاعرية. قد يكون ذلك نتاج حماسة الثائر وغضبه، إلا أن الأمهات والفتيات اللواتي نسجن أشعار درويش على المناديل، أو زيّن بها الأواني الفخارية والخزفية، إنما يخبرن أكثر حكاية درويش الرمز، فهن لا يعرفن عن البنادق سوى آثارها في صدور شهدائهن، فهن يؤمن بأنه على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
مشاركة :