الاثنين الماضي 9 أغسطس، صادف الذكرى الثالثة عشرة لرحيل الشاعر محمود درويش، وفي الشهر نفسه تمر ذكرى رحيل ناجي العلي وعبداللطيف عقل وسميح القاسم. خطر ببالي أن أمعن النظر في علاقتي بأشعار الشاعر بعد غيابه وفي أثناء حياته. هل خفتت بعد الرحيل قياسا إلى ما كانت عليه في زمن حضوره؟ قبل وفاته، كنت أنتظر أشعاره الجديدة، لأدرسها في ضوء السابقة، بالإضافة إلى اقتباساتي الكثيرة منها في مقالاتي التي تعالج موضوعا فلسطينيا يجد في قصائد الشاعر ما يعززه، وبعد وفاته تلاشى الدافع الأول ولم ينقطع الثاني، بل لقد قوي واشتد، ويستطيع من يتساءل عن دقة كلامي العودة إلى ما نشرته للتأكد من الأمر. الأسئلة التي لازمتني في الأيام الأخيرة هي: { ماذا بقي من أشعار الشاعر بعد وفاته؟ { أي أشعاره كان لها حضور أكثر؟ { ما هو تأثير إنتاجه الشعري والنثري في الأدب العربي في السنوات الثلاث عشرة الأخيرة؟ وإن نظرت إلى اقتباساتي الشخصية من إنتاجه بعامة فيمكن أن أقول مطمئنا إن نصوصا مثل «صمت من أجل غزة» وقصائد ديوان «ورد أقل» وقصيدتي «إن أردنا» و«أنت، منذ الآن، غيرك» وقصائد ديوان «حالة حصار» وقصيدة «في القدس» وقصائد أخرى قليلة كانت الأكثر اقتباسا، وكانت قصائد ديوان «سرير الغريبة» الأقل اقتباسا، بل إنها كانت نادرة الحضور في الذهن وفي النص المكتوب. من المؤكد أن ثمة فارقا كبيرا في الموضوع بين القصائد الأكثر اقتباسا والقصائد الأقل اقتباسا، فالأولى قاربت الموضوع الوطني الفلسطيني والثانية قاربت موضوعا إنسانيا عاما يمس الفلسطيني وغير الفلسطيني هو الغزل والحب، ولسوء حظنا وواقعنا، نحن الفلسطينيين، فقد ظل الاحتلال واللجوء والشتات والانقسام يحول بيننا وبين ممارسة حياة تمكننا من التفرغ للحياة وشؤونها المختلفة. ما سبق تلخصه أسطر الشاعر في ديوان «حالة حصار» الذي كتبه إبان انتفاضة الأقصى بعد ثلاث سنوات من كتابته ديوان «سرير الغريبة» الذي كتبه إبان مرحلة السلام: «كتبت عن الحب عشرين سطرا فخيل إليّ أن هذا الحصار تراجع عشرين مترا!...» ومنذ رحيل الشاعر لم يختلف في أوضاعنا الكثير، فكلما تقدمنا خطوة إلى الأمام عدنا إلى الوراء خطوات، ولم تصدق، حتى اللحظة، نبوءة توفيق زياد حين كتب بعد هزيمة حزيران 1967: «كبوة هذي وكم يحدث أن يكبو الهمام، إنها للخلف خطوة من أجل عشر للأمام» ولم تكن الهزيمة كبوة همام، لقد كانت كبوة وضع لم يتغير نحو الأفضل. حوصرت غزة بعد رحيل الشاعر وشنت عليها عدة حروب، وفي كل حرب يحضر نصه النثري «صمت من أجل غزة»، وازداد الانقسام حدة فظللنا نستحضر «أنت، منذ الآن، غيرك»، وأطلت العشائرية برأسها أكثر فرددنا «إن أردنا» أن نصير شعبا، فما علينا إلا أن ننسى تعاليم القبيلة فينا، وحين اندلعت الحروب في غزة وتوترت الأوضاع في الضفة الغربية واستشهد كثيرون وسار الآباء في جنازات الأبناء وزغردت الأمهات وهن يودعن أبناءهن أسعفتنا قصائد «حالة حصار» (2002) أكثر من بقية قصائد الشاعر السابقة واللاحقة، ومؤخرا، حين قتل جنود الاحتلال في بيت أمر محمد مؤيد العلامي وحيد والده وشاهدنا الأب يبكي ابنه، استحضرنا أيضا قصيدة الشاعر في رثاء محمد الدرة، ومقطع «لا تصدق زغاريدهن وصدق أبي حين ينظر في صورتي باكيا» من «حالة حصار». وأتذكر أيضا ما هو مهم. لطالما لفتت نظري قصائد الشاعر التي استلهم فيها رموزا شعرية عربية مثل امرؤ القيس وأبو تمام والمتنبي وأبو فراس، وقد كتبت عنها مطولا وصرت أفكر في إصدار كتاب في الموضوع بعد أن أتمه بدراسة قصيدتين من ديوان «سرير الغريبة»، وكلما قرأتهما وجدت مسافة بيني وبينهما لم تقم يوم قرأت قصائد «رحلة المتنبي إلى مصر» و«من روميات أبو فراس» و«امرؤ القيس» و«خلاف، غير شخصي، مع امرؤ القيس» وبعض قصائد ديوان «لا تعتذر عما فعلت» التي استحضر في قسم منها بعض أبيات الشاعر العباسي أبو تمام. أيعود الأمر إلى أن الشاعر تكلف كتابة ديوان «سرير الغريبة» ولكنه كتب القصائد المشار إليها من دم قلبه، هو الشاعر الذي نشأ على الهم الوطني، أم أن الأمر يعود إلى مبالغاتي في التركيز على أدب القضية؟ حقا إن سؤال ماذا بقي في أيامنا من الشاعر وشعر المقاومة الفلسطينية لهو سؤال يستحق أن يثار من جديد، وقد أثير من قبل مرارا. ويبقى سؤال آخر مهم هو: - ما تأثير محمود درويش ناثرا في النثر الفلسطيني والعربي؟ ولعل هذا يحتاج إلى مقاربة خاصة! الكتابة تطول والمساحة محدودة. { كاتب من فلسطين
مشاركة :