تعنى الكهانة بإضفاء صفات القداسة على ما هو غير مقدس، والتعقيد على ما هو غير معقد، بغرض خلق مساحة ظل بين الإنسان والحقيقة، يسكنها أوصياء على الحقيقة وعلى الإنسان معاً، تنبت فيها مصالحهم المادية في الثراء، ومطامحهم المعنوية في السيطرة، تحت غطاء إلهي يستمدون منه شرعيتهم الزائفة، ويبررون به وجودهم الطفيلي. وربما كانت أعظم مآثر الإسلام، أو لعلها سر عبقريته، هو خلوه من أي سلطة كهنوتية تحتكر فهمه، وتصوغ عقيدتها فيه، ثم تضطلع برعايتها، باعتبارها وكيلة للإله على الأرض، لأن العقيدة في الإسلام واحدة، جوهرها التوحيد المطلق، وإن وجدت مذاهب فهي مذاهب فقهية تتباين في تفسير أحكام الشريعة، وفي كيفية تنزيلها من أفق الوحي إلى دنيا الناس، والانتقال بها من زمان الأبدية المطلق إلى الزمن التاريخي النسبي. كما لا يوجد به كتب محرمة، معارضة لـ (الكتب الصحيحة)، بل كتاب معروف أوله وآخره، لا يوجد اختلاف على زمن تنزيله، وإن وجدت تفسيرات متعددة تفصل بين محكمه ومتشابهه. وهكذا خلا الإسلام من أي وساطة بين الله والإنسان، ولم تكن فيه حاجة إلى طقوس تناول واعتراف وتعميد ينهض بها أحد «رجال الدين» لغيره من «المؤمنين»، ولم يكن رجل الدين في الإسلام سوى فقيه، له فقط حق التعليم أو التفسير وليس الرقابة على الإيمان، ومن ثم ظل الضمير الشخصي هو المعيار النهائي للأعمال، واستمر القرآن الكريم كتاب يقرأه الجميع ولا احتكار لقراءته أو تأويله بشرط وحيد (موضوعي) وهو العلم بأساليب البيان، وليس بشرط انتقائي/ تفضيلي أو تحكمي هو الانتماء لسلك كهنوتي. غير أن المذهبية الشيعية التي انفجرت في التاريخ الإسلامي الباكر نحت إلى بناء ما يشبه سلطة معرفية وأخلاقية، اتخذت صورة إمام معصوم تمثل أولاً في علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قبل أن تتحول إلى طقس ذي طابع أسطوري بفعل استشهاد الحسين رضي الله عنه على يد جيوش يزيد بن معاوية، حيث تحولت حادثة كربلاء إلى شعيرة رمزية يحييها الشيعة كل عام في يوم عاشوراء، وينشد الشعراء فيها المراثي التي تكرم الشهداء، وتستعيد سيرتهم. ثم إلى نزعة مهدوية كاملة تبلورت في صيغتها النهائية بعد وفاة الإمام الحادي عشر «الحسن العسكري» عام 874م، حول الإمام الغائب، الذي سوف يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جَوراً . وبعد قرون عدة، استمرت النزعة المهدوية طموحاً باطنياً، رأى خلالها علماء الشيعة أن كل الحكومات غير شرعية في ظل غياب الإمام، ولكن من دون تفكير في حكم العلماء للدولة، استحالت هذه النزعة طموحاً سياسياً، وأخذ منظروها يدعون إلى الأخذ بمقاليد الحكم. ورغم أن العالم/ الفقيه لن يكون على مستوى الرسول والأئمة، فإن معرفته بالقانون الإلهي تعني أن باستطاعته أن يمتلك سلطتهم، وأن يرأس مجلساً يشرف على تطبيق الشريعة في مناحي الحياة اليومية بدلاً من وجود مجلس نيابي يأتي بتشريعات بشرية وضعية. وفي كتابه «الحكومة الإسلامية» المنشور عام 1971م، تمكن الإمام الخميني من تطوير المفهوم الذي صار أثيراً عن (ولاية الفقيه)، والذي كان بمثابة تطور ثوري لأيديولوجيا شيعية جديدة (سياسية) تطالب صراحة بمنح الحكم للفقيه باعتباره الأقدر على امتلاك الحقيقتين الروحية والسياسية، وعلى تحقيق العدالة المهزومة منذ استشهاد الحسين، على نحو حفز الثورة الإيرانية التي بلغت ذروتها بعودته من منفاه الباريسي على أعناق الجماهير التي رفعته إلى موقع الولي الفقيه، نائب الإمام الغائب على الأرض، فصار آية الله العظمى، مالك الحقيقتين الروحية (الباطنية) والسياسية (العملية). وبرغم أن الفضاء السُني بقي، نظرياً، بعيداً من تلك السلطة الروحية، لم ينتج ولاية فقيه سنية إلا أن الحركات الدينية السياسية المختلفة التي شغلت القرن المنصرم، نزعت إلى تأسيس نوع خاص من الوصائية الدينية على بقية المسلمين بدءاً من تمييز أنفسهم باعتبارهم جماعة المسلمين، وكأن من هو خارجهم إنما هو خارج الإسلام. ثم ادعاؤهم لأنفسهم حقاً معنوياً ودوراً سياسياً باسم الدين مطالبين الآخرين بالخضوع لهم والإذعان لمنطقهم، باعتبارهم، في الخطاب المضمر، حراس العقيدة، ووسطاء الروح. يحيل هؤلاء الحراس الإسلام إلى كهف، منكفئ على داخله، فالكهف لزوم الصنعة، والانكفاء منبع للغموض ومصدر الأسرار. ولأنه صار كهفاً فقد صار ضيق الصدر بقدر ضيق المساحة، يضيق بكل جديد، ويعول على كل تقليد، يجافي الاجتهاد، ويعشق القياس، يهدر ظروف المكان والزمان، إذ يرجع إلى أكثر تجارب المسلمين محافظة ليلبسها رداء الدين، يجعلها سنة بل شريعة، وهي ليست إلا فقهاً نتج في زمان تحول، ومكان تغير. وهنا يصير العقل عقالاً يقيد حركة الإنسان، مصدراً لإغوائه، يجافي الوحي الحيّ الذي يصير ضداً وعدواً. ولأن المهم الوحيد هو الخضوع والإذعان لحراس العقيدة، فلم تعد الغاية هـي الإنـسان، ولا العمران، لا التـرقي ولا التحـضر، لا العقـلانيـة ولا الحرية، لم يعد لله - جل شأنه - سوى صفات القهر والكبرياء، وتوارت صفات الرحمة والغفران، وصار الخوف لا الحب جوهر الإيمان. فالأصل في الأشياء هو التحريم لا الإباحة، والحلال لا يكون إلا بنص، وليس صحيحاً إلا ما هو مألوف وموروث، ومن ثم تـصبح الديموقراطية حراماً، ويصير البرلمان رجساً، وسلطة الأمــة كفــراً، فالحاكمية ليـست إلا لله، أما حاكمية الإنسانية فبدعة مضلة، من دون أن يقول لنا أولئك الحراس: من الذي يفسر مقصود الله في نص ليس محكم الفهم، وفي حكم ليـس قطعي الدلالة أو الثبوت، من هو ذلك المعصوم بعد وفاة سيد الخلق، أهو إمام الشيعة أو أحد مفتي الفضائيات؟ وعلى العكس يأتي الأزهر الشريف الذي لعب دوره التاريخي في حماية الإسلام الوسطي ورعاية التعليم الديني المعتدل، فلم يسعَ قط إلى ممارسة دور الكاهن في حياة المصريين أو في تاريخ الإسلام، ولذا أخذ أولئك الكهنة في استهدافه عبر ميليشيات (جامعية) تأخذ شكل (الحراك الطالبي) تسعى لفرض وصايتها الدينية ورؤاها السياسية بقوة العضلات على تلك المؤسسة التي صارت، من دون أن تدري، وربما من دون أن تستعد، في قلب المعركة حول المستقبل. فالأزهر لم يكن قط مجرد مؤسسة علمية وتثقيفية طالما اعتبرت راعية للإسلام المعتدل، بل كان أيضاً مؤسسة حاضنة لـ «الوطنية المصرية» طالما عبّرت عن أشواق المصريين، وتبنت أحلامهم الكبرى في الاستقلال والحرية، بعيداً من أي تحزبات سياسية أو انقسامات أيديولوجية، خصوصاً في مواجهة الحكم المملوكي، والحملة الفرنسية، والاحتلال البريطاني، حيث قاد الأزهر النضال الوطني في مواجهة هؤلاء، وكان قبلة المصريين، الذين تحركوا خلف علمائه وشيوخه بل وطلابه كممثلين عن الأمة، أي أن الأزهر، في الحقيقة، كان بمثابة الجذر المؤسس، والنموذج الأنقى للحراك الطالبي المصري المتمدين، رغم كونه مؤسسة دينية. فيما يفتقر الحراك الطالبي الإخواني إلى السلمية والوطنية والتمدين، إذ يدافع بوضوح عن موقف حزبي، وعن أهداف ضيقة الأفق. * كاتب مصري
مشاركة :