الجواهري في منزله ببراغ براغ: هدى المر في الحلقة السادسة التي نشرتها «المجلة» في عددها السابق تذكر محمد مهدي الجواهري كيفية انتهائه من التدريس وانتقاله إلى القصر الملكي – قسم التشريفات – بعدما خاض أولى معاركة وانتصر فيها. وهو كان قد تذكر في تلك الحلقة كيف تخلى عن زيه النجفي وبدأ بارتداء البدلة المعاصرة. كما تذكر سلسلة من المقابلات التي جرت بينه وبين شخصيات عراقية مهمة آنذاك، من بينها الملك فيصل الأول ورئيس الوزراء العراقي في تلك المرحلة 1927. وفيما يأتي الحلقة السابعة من ذكريات الجواهري ويروي فيها بقية أيامه إلى جانب الملك فيصل. «أنا محمد مهدي الجواهري، الجالس أمامك، ماذا فعلت بنفسي؟ كان يتملكني هوس صحافي الظاهر أن مرده كان إلى الشعر والأدب وكتابة الكلمة.والصحافة أعتبرها من الأغلاط الكبيرة التي بدلت مجرى حياتي. إذ كان لاسم الصحيفة رنة تختلف عن كل شيء. ماذا أريد؟ الصحافة. وتناسيت أنني عند الملك فيصل الأول، وأنه لا يمكن الخروج من باب التشريفات إلا إلى مرتبة نائب أو وزير أو وكيل وزارة. وكلمة الملك فيصل الأول ما زالت ترن في أذني حتى الآن. فيوم تم تعييني (1927) قال لي: «ابني محمد، هذه الوظيفة هي جسر تعبر عليه إلى أعلى المراكز». حتى (الحمار) يفهم معنى ذلك. قرأت منذ أيام، في إحدى مفكراتي القديمة، هذه العبارات التي خاطبني بها الملك فيصل الأول: «أنت، غدا، ستكون شاعر العراق». وللحقيقة والتاريخ لقد تحمل مني الملك فيصل ما لم يتحمله أحد غيره. مشكلات مع الشعر مشاكل كثيرة عانى منها الملك بسبب أشعاري. ومع ذلك كان يتحملني. فهناك قصائد لي أقامت الدنيا ولم تقعدها، أولاها كانت يوم نظمي قصيدة أنتقد فيها العلماء، علما بأن عائلتي تنتمي إلى هذه الفئة. فقد انتقدت فيهم الأنانية والبورجوازية التي تتحكم بهم وبالحاشية السيئة التي تحيطهم، متناسين الفقراء المساكين الذين يقضون جوعًا. ورغم أنني كنت في مركز حساس ويجب أن أفكر في كل ما أكتبه لئلا أتخطى حدودي، فقد ضربت بكل هذه المقاييس عرض الحائط، ونظمت ما نظمت. وبدأت الاحتجاجات تصل إلى الملك فيصل الأول: «هذا الذي ينتقد العلماء، يعمل في حماك». وللحقيقة والتاريخ. كنت متوقعا ذلك. وفي اليوم الثاني ناداني الملك قائلا: «ما هذه القصيدة التي نشرتها قبل أيام؟ هل فكرت بإحراجي قبل نشرها؟». فأجبته: العفو سيدي.. لا بد أنني أحرجتك. قال: «أتعلم أن مئات البرقيات والرسائل وصلتني احتجاجا عليك؟» فقلت له: نعم. كنت متوقعا ذلك. لكن، هكذا كان يجب أن أقول. وللحقيقة، لا أريد إحراجك أكثر. قال: «ما معنى ذلك؟». قلت: معنى ذلك.. وفهم الملك قصدي، فأجابني: «لا يا بني.. ليس إلى هذا الحد. عد إلى عملك». وكانت هناك قصائد أخرى سببت له الإحراج. مثلا قصائدي الغزلية التي لم يسبق لها سابق في الأدب المكشوف. وهذا شيء غير مقبول، ليس في العراق وحده بل في الوطن العربي كله. بعضها لا ينشر اليوم، فكيف قبل نصف قرن تنظم وتنشر؟ تنشر أيام كانت العادات والتقاليد العشائرية سائدة. يومها أثيرت الضجة حول قصيدة «جربيني» التي نشرت في جريدة «العراق» (1927). لم أكن آنذاك مغفلا، أو متناسيا مركزي في الديوان الملكي. بل كنت متأكدا مما ستجره علي تلك القصيدة من مصائب. لكن الذي شجعني على نشرها هو رئيس الديوان الملكي رستم حيدر. إذ حضر في أحد الأيام وسألني عن جديدي في النظم فقلت. لا شيء. فأجاب: «لا أعتقد ذلك». عندها، قلت له: رستم بك عندي جديد. لكني أتهيب مقامك. فكان رده: «لا مقامات في الشعر.. اقرأ». وقرأت له نحو خمسة أبيات من «جربيني» فأعجب برقتها وبلاغتها. ونشرت القصيدة، وفي ذهني أنها ستثير ضجة. حتى الجرائد، كان بعضها مؤيدا وبعضها الآخر معارضا. ووصلت أصداء الحكاية إلى الديوان الملكي. ومثلت في حضرة الملك فيصل الأول وأنا متأكد مما يريده مني. قال: «مرحبا.. أنشرت قصيدة جديدة في الصحف؟». ولحسن الحظ أن «جربيني» نشرت باسم مستعار هو «ابن سهل» إذ كنت يومها أنشر تحت هذا الاسم واسم آخر هو «طرفة». وكان جوابي على الملك التالي: سيدي. لو سألني إنسان آخر لقلت لا. فالقصيدة منشورة باسم مستعار. أما أنت، فلا أستطيع إلا أن أصدقك الحقيقة. كانت القصيدة أمامه. نظر إليها ثم التفت إلي وقال: «إنها رائعة. لكن أتعلم لماذا ناديتك؟ أخي الملك علي اتصل بي هاتفيا وقال: أتعلم ماذا فعل (ابنك محمد اليوم؟) فكل ما أطلبه منك الآن، هو الذهاب إليه والاعتذار منه». وفي المساء اتجهت نحو قصر الملك علي، فاستقبلني هو مع مفتي بغداد يوسف العبد. تصوري موقفي وقصيدة «جربيني» بين الملك علي المتدين ورجل الدين مفتي بغداد. التفت إلي الملك علي وقال: «الحمد لله أننا رأيناك». وكان ردي أنني أقدر ظروفه لذا لا أحب إزعاجه. قال: «وما الذي أتى بك الآن؟». قلت: جئت طالبًا الاعتذار منك رغم أنني بريء يا سيدي.. وكل ما كتبته لا يتعدى الكلام.. كلام شعراء، لا أكثر ولا أقل. وأنا ينطبق علي المثل الشائع: «عفة النفس وفسق الألسن». عندها قال لي: «الحقيقة أنني لست راضيا عنك. أنسيت أنك ابن الشيخ صاحب الجواهر؟ ابن المرجع الأعلى في الدين ينظم أمثال هذه القصائد؟». ودار حوار بيني وبينه قال في نهايته: «عذرتك على ألا تعود إلى ذلك ثانية». فقلت سمعًا وطاعة. لكن ما إن تخطيت العتبة حتى قلت في سري. سأعود وأعود وأعود إلى ذلك. وبالفعل كتبت عدة قصائد من المستوى نفسه. مثل «انيتا» و«أفروديت»، واكتمل النصاب عندما نظمت «النزغة!.. أو ليلة من ليالي الشباب» ومعناها الخروج عن المألوف. هل تصدقين أن هذه القصائد نشرت منذ نصف قرن؟ علما بأن بعضها لا ينشر حتى في أواخر القرن العشرين. بعد كل هذه القصائد، حضرت نفسي للرحيل في أي لحظة. والملك لم يسألني على الإطلاق عن هذه القصائد، رغم أنني تخطيت كل البروتوكولات. وبكل براءة وطفولة، تقدمت بطلب ترخيص جريدة من وزارة الداخلية، دون استئذان الملك فيصل الأول متناسيا أنني أعمل في الديوان الملكي. إصدار صحيفة بعد فترة، حضر وزير الداخلية إلى الديوان الملكي لمقابلة الملك. وما إن اقترب مني حتى قال لي: «كيف تطلب ترخيص جريدة وأنت ما زلت موظفا في الديوان الملكي؟ ألا تعرف أن امتياز صحيفة لا يعطى إلا لشخص مستقل ولا يعمل في أي دائرة رسمية؟» عندها قررت الاستقالة. ودخلت على الملك أستأذنه بذلك. وقال لي بلهجة بدوية صرفة: «صديقك ما يقولك بهذا» أي أن صديقك الصدوق لا ينصحك بذلك. ثم تابع حديثة قائلا: «ابني محمد، أتترك الديوان إلى الصحافة؟ نوري السعيد نصحك بذلك؟». قلت: لا سيدي. وكان الملك قد أدرك أن هذا الواقف أمامه، محمد مهدي الجواهري، لا يمكن بقاؤه في هذا المكان مع كل ما يملك من إمكانيات أدبية وشعرية. وعرف أن مستقبلي يجب أن يبنى خارج التشريفات. ثم تابع الملك حواره معي فقال: «هناك أول بعثة عراقية سترسل قريبا إلى باريس. فلماذا لا تكون أنت في عدادها. ومعلوم لديك أن باريس هي عالم الأدب والفن. وأنت شاعر لك مستقبل. وستتقاضى راتبا أثناء سفرك في البعثة. كما أن راتبك هنا لن ينقطع وسيبقى للعائلة. اسمع نصيحتي. ولدى عودتك ستجد أن الصحافة ما زالت موجودة في انتظارك». ومن باب الخجل قلت له أن يمهلني فترة للتفكير. لكن في اليوم الثاني قدمت استقالتي لرئيس الديوان الملكي صفوت باشا العوى. وبقيت استقالتي معلقة مدة طويلة قبل أن تقبل. اليوم، عرفت فداحة غلطتي. أنا شاعر «جربيني» و«النزغة» و«أفروديت» أرفض الذهاب إلى باريس رغم أن مكاني الطبيعي كان يجب أن يكون هناك. وحتى الآن، أحسد كل من يتكلم الفرنسية، هذه اللغة الناعمة الغنية في عالم الأدب والشعر، وعندي هوس فيها. وقد قرأت كتبًا فرنسية كثيرة، ولكن للأسف لا أستطيع التحدث بها. خلاصة الموضوع، أنه بعد الاستقالة حصلت على ترخيص الجريدة وكان اسمها «الفرات» في نفس الأسبوع الذي ولد فيه ابني البكر فرات. وتاريخ أول عدد كان الثامن من مايو (أيار) 1930. صحيح أن فترة صدورها لم تطل أكثر من شهر، لكنها كانت تعتبر وثائق تاريخية. إذ كان يكتب فيها جعفر باشا العسكري أحد رؤساء الوزارة السابقين في العراق ردا على مزاحم الباججي. والأخير أيضا رئيس وزراء سابق، وهو حي حتى الآن ويعيش في سويسرا. أما عدم استمرار «الفرات» فكان لأسباب يطول شرحها. وباختصار: فمع صدور الجريدة كانت المرة الأولى التي يتولى فيها رئاسة الوزارة نوري السعيد. وبالطبع كان لكل زعيم أشخاص يؤيدونه من طليعة الشباب المثقف. مثلا ياسين الهاشمي كان له جماعة من التقدميين يحتضنهم. وكذلك نوري السعيد. وقد نظمت له قصيدة تحت اسم «لتكن حازمة.. إنها وزارة المفاوضات» ولم يكن القصد منها مدح نوري السعيد، إنما حثه على العمل من أجل وطننا العراق. وكان نوري السعيد مقربًا من الملك فيصل كثيرا. وما إن صدرت جريدتي حتى تبناها. لكن الجمهور اعتبرها جريدة الملك لكوني كنت في الديوان الملكي وباعتبار أن نوري السعيد يعد الرجل الأول بالنسبة إلى الملك فيصل الأول. ولعله كان كاتم أسرار الملك. جريدة «الأفندي» أثناء تلك الفترة، كانت هناك جريدة «الأفندي» ممسوخة، هزلية ووظيفتها شتم الناس بطريقة مبتذلة وغير لائقة، فاعتبرت جريدتي حجر عثرة في طريقها. وللأمانة والتاريخ أقول إن أصحابها كانوا من بقايا عصابة ساطع الحصري في ذلك الوقت. وكانت كلما صدرت «الأفندي» وجدت فيها بعض الانتقادات الموجهة ضدي وموقعة باسم «حبزبوز» إلى أن طفح الكيل ولم أعد أحتمل، فكتبت مقالا ضد ساطع الحصري وعصابته لم أترك فيه سترا مغطى، فسبب كارثة رهيبة. وحتى الآن أعتبر المقال أحد أخطائي الرهيبة، إذ كان باستطاعتي يومها جعل نوري السعيد يمنع صدور «الأفندي» لكني فضلت الإجابة عبر «الفرات». وقامت الدنيا ولم تقعد، واستغلت المقالة ضدي. وبدل أن أصطاد تلك العصابة اصطادتني، إذ بدأت الجرائد الموجودة تكيل إلي التهم يوميا. وفي اليوم الثاني لنشري المقال، صدر قرار من مجمع الوزراء بإقفال جريدتي لأجل غير مسمى. إنه أحد أخطائي. يومها كتبت بلا حساب مقالا بعنوان «يا وزارة المعارف.. يا وزارة الحبابزة والقزامزة». وصحوت بعدما انقلبت الدنيا كلها ضدي. بعد هذه الضجة التي أثارتها مقالتي، ذهبت إلى الملك فيصل الأول لأشكو له هذه الحملات التي تدار ضدي، وما إن رآني حتى استقبلني قائلا: «ابني محمد!.. ماذا تريد؟» أجبته: لا شيء سوى حكمك العادل. عندها التفت إلي، فأحسست الشماتة في عينيه. ورغم كل محاسن الملك، كان يحقد كالبعير. قال: «أتتذكر الماضي، وماذا قلت لك؟ اليوم، المحكمة هي الفصل في قضيتك». أما نوري السعيد، فقد كانت تركيبته من نوع آخر. إذ حاول أن يفعل شيئا من أجلي لكنه لم يستطع.وحاولت أن أجرب حظي مع رستم حيدر رئيس الديوان الملكي. وقد كان يصدقني القول ومعجبا بي كشاعر. فاستقبلني بالترحاب ثم بادرني قائلا: «أنت تعرف هؤلاء الأشخاص (يقصد الملك) وكيف يتعاملون. وأن لديهم قوائم سوداء. فإذا استطعت الخلاص من هذه الورطة خلال ثلاث سنوات، فأنت الرابح».وهكذا كان، بقيت ثلاث سنوات لا أستطيع حتى التنفس، بعدها عينت في نفس وظيفتي الأولى، أي عدت إلى التدريس في المدارس الابتدائية. هكذا نفذ في حكم الانتقام. فقد قال الملك فيصل الأول: «ليعد إلى وظيفته الأساسية» أي مدرس ابتدائي. وكنت مجبرا على العودة، بعد تعطيل ثلاث سنوات، من أجل لقمة الأولاد. *في العدد المقبل الحلقة الثامنة The post مذكرات أبى فرات (7) ..الجواهري: اعتذاري عن السفر إلى باريس أكبر غلطة في حياتي appeared first on المجلة.
مشاركة :