الحرّية هـي القيمة الإنسانية العُظمى التي كافحت من أجلها الشعوب، هي انطلاقة الفرد بكامل إمكانيّاته لاتخاذ قراره وخياراته، هـي التحليق عالياً دون همّ أي قيد، هي اللاغموض وحُب الاكتشاف ونبش كل مبهمٍ ومستور، وهي بذلك الفطرة التي خُلقت في أصل الإنسان، فالأب الأولُ "آدم" عليه السلام ضَعُفَ أمام فطرة شغف الاكتشاف وإلحاح الموَسْوِس، فاقترب للشجرة وذاقَ وزوجه "حواء" من ثمرها. "حيثُ حرِّيَتي ثمةَ وطني" قالها الفرنسيون، وأستاذ الجيل أحمد لطفي السيّد قال: "الحرية هـي المقوم الأول للحياة ولا حياة إلا بالحرية"، وعن القيود قال أبراهام لينكولن: "لا أحد يحب قيوده ولو كانت من ذهب". لكن في مجتمع الإنسان السؤول الهلوع، كثيراً ما كانت كلمة "حرية" مستفزةً لصانعي الدول والأمم بطبيعة الإنسان وحاله؛ لأن الإنسان الذي يتسيّد مجتمعه إذا طغى بحرّيته طمِع بها وحرمها عن غيره، فيسود الطغيان في نفسه ويصبح هلوعاً بمكسب الحرية التي اختزلها لنفسه دون غيره، وهذا واقعٌ يثبته تاريخ الزمان وحاضره، لكن التاريخ علّمنا أن الشعوب الحرّة انتزعت مكسب الحرية من غاصبيها انتزاعاً وغلّفتها بمساواةٍ كفلت العدل فتجلّت حينها قيمة الإنسان المقدّسة عند تلك الشعوب. قبل كل شيء يجب أن ندرك أن مصطلح "الحرية" عميق وله عدة أوجه ومعانٍ واختلف الفلاسفة والحكماء عبر الزمان في سرد معناها، وكذلك هـي ليست مقتصرة في أمر محدد إنما لجوانب عدة في حياة البشر، لكن السؤال هو: هـل فعلاً مراد الناس للحرية هو المنال الأصح لإحياء مجتمعاتهم؟ إذا تعمّقنا في ميادين الواقع وتساءلنا عن ماهية الأحداث في ظل غياب الحرّية الحق التي تلبي الحوائج القضائية والاجتماعية والأمنية في المجتمع، في ظل غياب هذا الأمر في أي مجتمع تسيطر عليه نشوة العبودية بشكلٍ أو بآخر تفسد أخلاق الأفراد في المجتمع؛ لأن القوي الذي طمع بالحرية وحفظها لنفسه يَكُونُ مستبداً على الأفراد، فبالتالي يضطر الفرد للتخفّي وعدم الظهور وإظهار أي حقيقة أو رأي خوفاً من الاستبداد، فتسود لغة "النفاق" في المجتمع؛ لأن اللغة حينها تكون وسيلة للتخفّي، حينها يفقد المجتمع حس المبادرة وحماس العطاء والإنجاز والتقديم؛ لأن أفراده يكونون مقهورين مغلوبين على أمرهم، والمغلوب على أمره يفتقر لأي همّة في العمل والمبادرة، وكذلك هو الحال في الثقافة والفن، فالمسرحُ والشعر والأدبُ والغناء عندما تَكُونُ مكبوتةً وموجّهة ومفرّغة فقط لتزكية مؤسسات ومحجّمة بخطوطٍ حمراء كثيرة، تتقلّص مَلَكَة الفن فيه. في ظل غياب الحرّية الحق العادلة تتكون الجماعات السرّيّة ذات الأجندة الخفّية؛ لأن الفرد يهرب ويلجأ إليها كبديل للحرّية ويسرّب قوّته وطاقته وانطلاقاته فيها، هرباً من الاستبداد الذي خَلَقَ في المستبد غروراً برأيه وعدم قبوله بالمشاركه في الرأي أو حتى النصيحة، عندما لا يجد المرء الحرية في مجتمعه المدني يضطر أن يلجأ لانتمائه، يلجأ لعشيرته، لقبيلته، لأهل عِرقه، لمذهبه لدينه، فيخلق بذلك التعصُّب بين أطياف المجتمع، لأن "المَدَنِيَّةَ" لم تحتضنه وتؤويه بمفهوم الحرية المقدَّس، صحيح أن غياب هذا المعنى من الحُريَّة يولِّد هجرة الأفراد واللجوء إلى مجتمعاتٍ أخرى، لكن قد يفر المرء الهارب إلى المؤسسة أو القوّة التي لم تطبّق مفهوم الحرّيةِ، والتي هرب منها أصلاً، فيتملّق لها ويصفق وينافق لها ويتجسس لها ويتعرّض لباقي الأفراد من أجلها، حتى يصل لمنصب القوة فيها، فيسرق منها ويخلق فساداً فيها لمصالحه؛ لأنه في الأصل ابتغى مصلحته، وبذلك يدمّر الاستبداد نفسه بنفسه. إن هذا المفهوم للحرّية يَكُونُ في تحقيق كرامة الحاكم وهيبته وحكمه وكرامة المحكوم أيضاً، تحت بند العدل والمساواة، أي أنّ واجب الأفراد في المجتمع لحاكمهم أو رئيسهم أو مليكهم يكون لازماً ومفروضاً بعد أن يتسلموا هم كل حقوقهم منه، أي بتحقيق مفهوم التوازن بين الواجبات والحقوق، واجبات الفرد لبلده وحقوقه منه، بهذه الموازنة بين الحقوق والواجبات يكون المجتمع آمناً، وقد ارتقى لمنصة حرية العدل والمساواة. والآن أسألك يا عزيزي وتَفَكَّرْ بتجرُّد: "تريدُ مجتمعاً آمناً؟". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :