سلمان عز الدين سفينة فضائية، هي الأرض، تبحر على متنها الإنسانية.. بأربعة محركات غير مراقبة: العلوم، التقنية، الاقتصاد، الربح... تتجه هذه السفينة الفضائية نحو كوارث دون أن يتمكن أحد من التحكم فيها. هذه هي الصورة التي يرسمها إدغار موران لعالم اليوم، وفي كتابه ثقافة أوروبا وبربريتها يعرض المزيد من دواعي القلق: ينتج التطور التقني الاقتصادي الراهن انحطاط الكائنات الحية التي تؤدي هي نفسها إلى انحطاط الحضارة الإنسانية.. التقنيات التي أنتجها الإنسان، مثل الأفكار، ترتد ضده. وتعرض الأزمنة الحديثة أمامنا تقنية تنفلت من عقالها بتخلصها من الإنسانية المنتجة لها.. تقنية تجلب بربريتها الخاصة، بربرية الحساب الخالص البارد الجليدي الذي يجهل الوقائع العاطفية المميزة للبشر... يقول موران إن أوروبا لطالما أنتجت البربرية، أشد أشكال البربرية سوءاً وتأثيراً: الاستعمار، الاستعباد، العنصرية، النازية.. ولكنها هي نفسها قد أنتجت، بالمقابل، أعظم المضادات والترياقات الناجعة: النزعة الإنسية، حقوق الإنسان، الديمقراطية، الاشتراكية، المواطنة.. فماذا ستفعل الآن إزاء مأزقها ومأزق البشرية الراهن؟، هل لا يزال بإمكانها إنتاج ترياق، مضادات واقية تنبع من ثقافتها، من سياسة الحوار والانسجام، من سياسة للحضارة تنمي وتطور خصال الحياة دون الاقتصار على ما هو كمي وتضع حداً للسباق نحو الهيمنة؟ هل يمكنها أن تنهل من النزعة الإنسية العالمية التي كونتها في الماضي؟ هل يمكنها أن تعيد خلق النزعة الإنسية من جديد؟ إدغار موران فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، ولد في باريس في عام 1921، ويعرف بتنوع اهتماماته التي شملت، إضافة إلى السيسيولوجيا، السياسة وعلم النفس والفنون والشؤون العلمية والبيئية.. كما يعرف بنزعته الإنسانية الخالية من أي تعصب أو انحياز، وهو من الأوروبيين القلائل الذين لا يتشبثون بفكرة مركزية الحضارة الغربية. يلح على فكرة الأرض الوطن كهوية بديلة للإنسانية جمعاء، منطلقاً في ذلك من أن العالم برمته قد صار مترابطاً، في الأفكار والشواغل، وفي مواجهة المصير المحفوف بالمخاطر. يرفض موران الثنائيات التي تحبس الفكر وتوزع الآراء بين (إما.. أو)، فالواقع أكثر تعقيداً، ومشكلاته مركبة غير قابلة للتبسيط والاختزال، وكذلك الحلول والمخارج التي يجب أن نسعى خلفها. كتب الكثير من المؤلفات أشهرها: (إلى أين يسير العالم؛ هل نسير إلى الهاوية؛ الفكر والمستقبل:مدخل إلى الفكر المركب؛ عنف العالم؛ المنهج..). كتابه ثقافة أوروبا وبربريتها لا يخرج عن سياق أسئلته وشواغله الأساسية، وكذلك اقتراحاته المقدمة هنا تأتي مكملة لما شرع به في مؤلفات أخرى عديدة.. يحذرنا موران من الاعتقاد أن ترياق الحمق موجود على الدوام في العقل، في الفكر.. فثمة أوقات توهمنا فيها أننا نصدر عن العقلانية، وإذا بنا ندور في فلك أنساق فكرية جامدة بلا أساس تجريبي وبلا صلة بالواقع. مثل هذه العقلانيات الصورية غالباً ما تنتج أشد أنواع الحمق والهذيان والأساطير المدمرة.. وها نحن، مثلاً، أمام سلوكيات الإنسان الاقتصادي، التي تبدو وكأنها قائمة على حساب عقلاني للمصلحة ولمعادلات الربح والخسارة، ولكن تمحور هذه السلوكيات حول الأنا وتجاهل الغير، يجعلها في الحقيقة تنمي نوعاً من البربرية الخاصة بها.. يقدم المؤلف عرضاً تاريخياً موجزاً لأشكال البربرية التي أنتجتها البشرية، وخاصة أوروبا، فالبذور الهشة، وغير المرئية، في المجتمعات السحيقة في القدم، نمت وتطورت مع نشوء المجتمعات التاريخية التي انبثقت في الشرق الأوسط والصين والمكسيك منذ ثمانية آلاف عام. سمات البربرية ارتبطت بسلطة الدولة المتغولة، وبالغزوات والحروب التوسعية، وبالتمايز الطبقي والاستعباد والتهميش ومظاهر الانحراف الموجودة في القاع..ثم جاءت البربرية الدينية مع نزعة التطهير ومحاكم التفتيش وإقصاء المعتنقين لعقيدة أخرى. وفي مرحلة لاحقة، ومع صعود فكرة الأمة الدولة، تحول التطهير من الديني إلى الإثني، ليصل مداه مع العنصرية التي تفجرت في القرن العشرين، لا سيما في ألمانيا النازية.. وبالمقابل فإن أوروبا لم تكف، حتى في أحلك ظروفها، عن إنتاج الثقافة والفنون ومظاهر الحضارة، ولم تكف أيضاً عن ابتكار المضادات للبربرية، فها هي إثر الثورة الفرنسية تجابه الإقصاء والتطهير بأفكار الحرية والدمج (المواطنة) والمساواة والإخاء الإنساني.. يستخلص موران من عرضه أن البربرية ليست عنصراً يرافق الحضارة، وإنما هي جزء لا يتجزأ منها، فالحضارة تولد البربرية وبالخصوص انطلاقاً من الغزو والسيطرة. لقد شن الرومان غزوات وحروباً لم تخل من العنف والقسوة، واحتلوا على إثرها بقاعاً شاسعة من العالم، ولكنهم ما لبثوا أن أقاموا حضارة راقية توجهها أحد أباطرتهم بإعلان حق المواطنة لجميع سكان الإمبراطورية. بالمقابل هناك أفكار ومنتجات حضارية تنقلب إلى الضد.. إلى البربرية ومثال ذلك هو التقنية الحديثة.. تتجسد هذه المفارقة بوضوح في حال العولمة التي نعيش في ظلها، حيث نقف أمام وجهين مختلفين ومتكاملين: عولمة اقتصادية أتاحت سيطرة رؤوس الأموال وهيمنة الشركات الكبرى، وعولمة فكرية سمحت بتداول الأفكار وتقارب الثقافات وتواصل البشر.. ولكن إذا كان علينا مقاومة البربرية، فكيف سيمكن ذلك وهي مكون للحضارة لا يمكن التخلص منه؟ يقول موران: إن ما يجب استخلاصه من التجارب المأساوية للقرن العشرين هو المطالبة بإنسية جديدة تتمثل في التعرف إلى البربرية كما هي بدون تبسيط أو تشويه من أي نوع. وليس المهم هو الندم وإنما الاعتراف.. من اللازم أن نعرف ما حدث بالفعل. وأن نمتلك الوعي بتعقيد هذه المأساة الضخمة. وأن يشمل هذا الاعتراف جميع الضحايا: السود، الغجر، الأرمن، اليهود، الجزائريون.. هو أمر ضروري إذا أردنا تجاوز البربرية الأوربية. يجب أن نفكر في البربرية الأوربية لنتجاوزها لأن الأسوأ ممكن دوماً. ففي قلب صحراء البربرية المهددة لنا لا نتواجد حتى هذه اللحظة إلا في واحة صغيرة نحتمي بها، ولكننا نعرف أيضاً أننا نوجد في ظروف تاريخية سياسية اجتماعية تجعل من الأسوأ قابلاً للتحقق، وخصوصاً في المراحل التي يبلغ فيها التأزم حد الانفجار.. يدين موران الوعي الجيد الذي يستبعد التفكير في مظاهر البربرية ووقائعها، وفي الوقت نفسه فهو يرى أن الوعي الشقي الذي لا يرى إلا البربرية خاطئ أيضاً. المطلوب هوالوعي المزدوج، فمن اللازم أن يدمج في وعي البربرية الوعي بأن أوربا تنتج عبر الإنسية الكونية والتطور التدريجي لوعي عالمي ترياق بربريتها الخاصة. إنه الشرط الآخر لتجاوز المخاطر الفعلية لأسوأ البربريات الجديدة. ويختم موران: لا يوجد شيء لا يقبل التحول إلى ضده، لذلك على الظروف الديمقراطية الإنسانية أن تتجدد باستمرار وإلا فإن مآلها الانحطاط. تحتاج الديمقراطية لبعث الحياة في نفسها بشكل دائم. إن التفكير في البربرية هو المساهمة في إحياء الإنسية، وإحياء الإنسية يعني مقاومة البربرية.
مشاركة :