الفوضى هي السلاح الأول لدى أي حاكم فاسد يخاف من شعبه وخوف الحاكم -صالحاً كان أم طالحاً- ضروري بعد خوفه ممن خلق هذا الشعب. بعد ثورات الربيع العربي بل وفي أثنائها ظهر بشدة مصطلح الفوضى الخلاقة، وتشبث الحكام بمقاعدهم منددين ومهددين بحلول الفوضى والدمار وانعدام الأمن والاستقرار في حالة أي محاولة بأي شكل لفك ذلك "الصمغ" الذي يحول دون انتزاعهم من مقاعدهم انتزاعاً. خلال تلك السنوات القليلة السابقة تعرضت بعض البلاد العربية للفوضى بالفعل، سواء كانت فوضى كبرى أدت لإشعال حروب أهلية كاملة، أو كانت مجرد مجموعة من عمليات التفجير مع أعمال البلطجة والعنف والتخريب. قبل أن نخشى المطالبة بالتغيير الذي صاحبته الفوضى الكبرى في سوريا أو ليبيا مثلاً أو الفوضى الصغرى التي حدثت في كل بلد عربي مر أو حاول المرور أو حتى حاول أن يتنفس بضع نسائم من الربيع العربي، فلنفكر فيمن يصنع تلك الفوضى فعلياً. قد يدعي البعض أن الفوضى تنشأ بسبب وجود فصائل دينية مختلفة ومتعصبة، أو لتدخل أيادي خارجية تعبث بهذا الطرف أو ذاك، وتمد هذا الطرف بالسلاح، وهذا بمضادات السلاح؛ ليستمروا في تلك الفوضى لأطول فترة ممكنة، أو قد يرجع عدم حدوثها في بلاد أخرى إلى أن الموقف في تلك البلاد لم يتغير أصلاً بالشكل الكافي الذي يدعو لإقامة فوضى من أجله، ولكن فلنتخيل أن شعباً قد نزل إلى ميادين دولته، مطالباً بمطالب ثورية خالصة، ولم يحدث أدنى احتكاك أمني مع المتظاهرين، واستطاعوا بالفعل إسقاط كامل النظام، والقبض على كل فاسد أو سارق بدون أدنى مقاومة، بل ومحاسبتهم من خلال محاكمات ثورية فهل في هذه الحالة الخيالية غير القابلة للتحقيق من الممكن حدوث أية فوضى؟ إن الفوضى على مدار العصور كانت المسمار الأخير في نعش الأنظمة الفاسدة المستبدة، الفوضى الصغرى تظهر فجأة عندما يود النظام الحاكم إظهار استقرار الأوضاع في عهده المزعوم، أما لو كان عهده ممتلئاً بالفعل بالفوضى، فالحل إذاً مزيد من الفوضى؛ ليطمع الناس في الفوضى القليلة، بدلاً من تلك الكثيرة التي هبت عليهم، وإذا يئس الحاكم من إطفاء ثورة شعبه واطمأن لوقوف جزء كافٍ من الجيش معه، فلتحل إذاً الفوضى الكبرى على البلاد! دائماً سيوجد من يلقي عليهم تهمة إشعال الفوضى، جماعات متطرفة، إرهاب دولي، فتنة طائفية، أو يمكن للنظام إراحة دماغه بشكل كامل وإلقاء التهمة كاملة على الأيادي الخارجية العابثة بأمن الأوطان وسلامتها، والحقيقة أنني لا أنكر دور تلك الأيادي، ولكن هل تعبث الأيادي الخارجية بالدول عن طريق الـ"واي فاي" مثلاً؟ أم يستلزم الأمر وجود من يمكن تسميتهم بأعداء الداخل جنباً إلى جنب مع أعداء الخارج، وبالطبع عند الحديث عن أعداء الداخل سيلقي الحاكم عندها التهمة كاملة على الثوار المخربين العملاء، مهما كانت أعدادهم أو صواب ما يطالبون به. لا تحدث الحروب بين نظام معين ومعارضيه إلا بإذن من النظام الحاكم، فالمعارضة إن كانت مدنية غير متمثلة في ميليشيات أو جماعات مسلحة لا تدخل في حرب بتعريفها، إلا لو قرر النظام تجاوز الحلول الأمنية التقليدية إلى استدعاء الجيش وفتح النار على المدنيين، وحدوث ذلك في سوريا على سبيل المثال لا يتحمل وزره إلا ذلك النظام الذي قبل بدخول معركة كاملة يقتل فيها الملايين ليظل بالسلطة. في رواية "1984" للعظيم "جورج أورويل" تم تقسيم العالم إلى دولتين كبيرتين في صراع مستمر، والحقيقة أن هذا الصراع المسرحي يظهر في الرواية بالسيناريو المفضل لدى حكام الدولتين، فكراهية الشعوب تدفع دفعاً لأن تتكون لأعداء الخارج، وبالتالي لا تتسع القلوب لحمل أي نوع من الكراهية ضد النظام الحاكم، مهما طغى الحاكم أو قمع الحريات، ومثل هذا النوع مما أسميه توجيه الكراهية"، هناك الكثير من الأنواع الأخرى كتوجيه الكراهية لدول معينة أو لجماعات معينة، ويسبق ذلك بالطبع تقديم الكثير من الجرائم البشعة المثيرة للغثيان مع نسبها لدولة معينة على سبيل المثال؛ لينغمس الناس انغماساً في كراهية تلك الدولة، فتتحول كل الدول إما دولاً "نخاف" من تكرار السيناريو الخاص بها، وإما "نكرهها" لمحاولاتها المزعومة لتكرار السيناريو، وتجد أقل الدول التي يتحدث عنها الإعلام العربي هي الدول التي حققت قدراً وافراً من التقدم مع قدر وافر من حرية الرأي والتعبير، كماليزيا مثلاً أو اليابان أو الهند أو غيرها. بتحقيق الخوف والكراهية وجذرهما جذراً في قلوب المواطنين أضمن للحاكم ونظامه أياً كانت دولته عمراً مديداً مرفهاً في الدنيا، وجحيماً سعيراً في الآخرة، إن شاء الله. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :