بعد ربع قرن من غزو صدام للكويت

  • 8/23/2016
  • 00:00
  • 44
  • 0
  • 0
news-picture

ليلة لا أنساها أبداً هي ليلة الثاني من آب (أغسطس) في العام 1990. كنت أعمل في مؤسسة الرئاسة المصرية مسؤولاً عن مكتب المعلومات للرئيس السابق حسني مبارك، واتصل بي بعد منتصف الليل سفير مصر في الكويت سعيد رفعت ليبلغني بأن غزواً عراقياً اجتاح الدولة وأن الوزارات السيادية سقطت وأن قوات صدام حسين تتوغل في المدينة وأن العائلة الحاكمة خرجت من البلاد، فاندهشت كثيراً لذلك الخبر لأنني رافقت الرئيس المصري في رحلته الأخيرة إلى كل من بغداد والكويت والرياض حيث تناولنا الإفطار في الأولى خلال جلسة عمل مع الرئيس الراحل صدام حسين وتناولنا الغذاء في الثانية أثناء جلسة عمل مع الأمير الراحل جابر الأحمد الصباح وانتهينا إلى عشاء وجلسة طويلة في الرياض مع الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز. خلال الجلسة في بغداد، قال صدام موجهاً حديثه إلى الرئيس المصري: «أريد أن أعطي كل فلاحة في صعيد مصر نصيبها من عوائد النفط العربي»! فرد عليه الرئيس مبارك قائلاً: «نحن نتمنى الخير لمن يمتلك الثروة ولكل أشقائنا ولا نفكر بهذه الطريقة». وعندما سأله الرئيس عن نواياه تجاه الكويت محذراً من أي مغامرة عسكرية على الحدود معها، خصوصاً بعد إشاعات عن تحرك فرقة من الحرس الجمهوري العراقي صوب حدود الكويت، فرد صدام إن ذلك «ليس وارداً، ولكن أرجو أيها الأخ الرئيس ألا تطمئن الأخوة في الكويت لأن لي استحقاقات مالية لديهم لن أتخلى عنها فقد استنزفوا استخراج البترول من حقل الرميلة، ولا بد من تعويض كبير». وفي الكويت، وجدناهم قلقين من جار قوي لا يؤمن جانبه ولا يمكن توقع خطواته المقبلة فهو الذي قال لأمير الكويت في القمة العربية السابقة عندما دعاه إلى زيارة الكويت: «ستجدني عندك فجأة فليست بيننا رسميات»! وكأنما كان يشير من طرف خفي إلى نية دفينة حينذاك. وحدثنا الأشقاء في الكويت عن البلايين التي دفعوها له دعماً أثناء حربه الطويلة مع إيران. أما في الرياض فجلسنا جلسة هادئة مع الملك وحاشيته مساء 23 تموز (يوليو) 1990. وكان هناك إحساس بأن شيئاً ما يلوح في الأفق. أعود إلى ليلة الغزو. فبعد أن أنهى السفير المصري في الكويت مكالمته العاجلة معي، اتصل بي سفير الكويت في القاهرة عبدالرزاق الكندري، وهو زميل دراسة لي من كلية الاقتصاد في جامعة القاهرة، وأبلغني بمضمون لا يختلف كثيراً عما ذكره السفير المصري. وبدأت أشعر بثقل الخبر وأهميته، وكانت الساعة تقترب من الثانية صباحاً. عندئذٍ اتصل بي مدير المخابرات الحربية المصرية ليبلغني بخطورة الموقف وضرورة إبلاغ الرئيس شخصياً في أقرب وقت، فعزمت على تأدية مهمتي بينما الساعة تقترب من الثانية والنصف صباحاً والرئيس نائم وليست هناك توقعات في اليوم السابق بأن شيئاً ما سيحدث. اتصلت بسكرتارية الرئيس ورد عليّ الضابط الكبير المناوب قائلاً: «سأدق جرس الهاتف على الرئيس، لكنك أنت المسؤول عن إيقاظه. والأمر برمته على مسؤوليتك». ظل الجرس يدق مرة ومرتين، فاستيقظ الرئيس مندهشاً، فقال له الضابط: «هناك اتصال لسيادتك مع الدكتور الفقي لأمر عاجل»، فسألني الرئيس وهو بين النوم واليقظة: «ماذا جرى؟»، فقلت له إن «الرئيس صدام غزا الكويت وقام بعملية اجتياح واسعة للدولة، وأحد أفراد العائلة الحاكمة استشهد دفاعاً عن بلده»، فقال لي: «هل دخل منطقة حقل الرميلة فقط؟»، فقلت له: «لا يا سيادة الرئيس. إنه غزو كامل، والعائلة تركت الكويت صوب الطائف في المملكة العربية السعودية»، فبدا الرئيس شديد الدهشة، وقال إن ما فعله صدام «لم يخطر على بالنا بهذه الطريقة». علمت أنه بعد أن انتهيت من مكالمتي مع الرئيس بأقل من ربع ساعة، اتصل به وزير خارجية السعودية الأمير سعود الفيصل، رحمه الله، الذي كان موجوداً في القاهرة لحضور اجتماع وزراء خارجية الدول الإسلامية، وحمدت الله أنني أبلغت الرئيس قبل أن يعرف بالخبر من خارج مؤسسة الرئاسة. جرت الأمور بعد ذلك كما هو معروف، وانعقدت القمة العربية في العاشر من آب (أغسطس) 1990، ومثلت غطاءً عربياً شاركت فيه مصر وسورية كبداية لتحرير الكويت الذي ظل محتلاً لبضعة شهور، حتى أن بعضهم كان يردد: «لقد حاول صدام إخراجها من الجغرافيا لتدخل التاريخ». وجرت مشادات في القمة العربية كان من أطرافها معمر القذافي وياسر عرفات بينما تفوه نائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان بعبارات غير لائقة تجاه الرئيس مبارك ومن صوتوا من الملوك والرؤساء ضد الغزو العراقي. وكنت شاهد عيان على المراسلات التي جرى تبادلها بعد ذلك بين القاهرة وبغداد خلال تلك الشهور، ويشهد على ذلك الصديق نبيل نجم، السفير العراقي آنذاك، وقد ذكر فقرات عن ذلك في كتاب مذكراته الذي صدر هذا العام. كانت رسائل الرئيس مبارك تركز على النصيحة للرئيس العراقي بسحب قواته في ظل تغطية سياسية عربية، محذراً من المخاطر المحتملة في ظل الوضع الجديد، بينما تضمنت ردود الرئيس العراقي عبارات حادة واتهامات عنيفة لكل من انتقدوا الغزو أو اعترضوا عليه حتى بدأت العمليات العسكرية بمشاركة أميركية واسعة. وغداة تحرير الكويت طلب الرئيس المصري الأسبق سحب قواته من حفر الباطن حتى لا يضطر إلى دخول الأراضي العراقية مثلما كانت رغبة واشنطن في البداية. والملاحظ أن وجهة نظر إسرائيل هي التي تفوقت في تلك الظروف، إذ طلبت من الإدارة الأميركية الإبقاء على صدام لسنوات حتى يظل فزاعة لجيرانه، كما يمكن كرد فعل لتصرفاته العنترية ضرب البنية الاقتصادية والعسكرية للدولة العراقية، وقد كانت شيئاً لا يستهان به. أتذكر هذا كله الآن بعد مرور ستة وعشرين عاماً على ذلك الحدث العربي المؤلم والذي ظلت تداعياته حتى اليوم تغطي المنطقة بسحابة من الاضطراب والقلق والخلل في موازين القوى. كانت فترة مظلمة في تاريخنا العربي الحديث تنضم إلى هزيمة حزيران (يونيو) 1967 كي تتوازى معها في سلبية النتائج وخطورة الأحداث التي دخلت بنا إلى مستنقع آسن ما زالت تتساقط فيه الأشلاء والدماء والدموع في أكثر من قطر عربي تحت مسميات جديدة تطل منها كلمة «الربيع»، بينما تتساقط الأوراق من الشجرة العربية واحدة تلو أخرى. لذلك فإنني أطرح هنا الملاحظات الثلاث التالية: أولاً: إن كل النكسات الكبرى في تاريخنا ارتبطت بحكم الفرد وغياب الديموقراطية وتأليه الحاكم، لذلك فإن أول ما ينقصنا في المنطقة العربية هو إطلاق الحريات من عقالها واحترام قيمة الفرد وتحقيق العدالة الاجتماعية باعتبارها الضمانة الأولى للاستقرار السياسي والسلام الاجتماعي. ثانياً: إن التنسيق السياسي العربي كحد أدنى لمفهوم العروبة لا يزال غائباً، فلكل دولة أجندة قطرية وارتباطات خارجية واتصالات أجنبية، ونحن في غيبوبة كاملة لا ندرك قيمة عامل الوقت وعنصر الزمن حتى أصبحنا جزراً منعزلة ودولاً ممزقة قابلة للتقسيم بدرجات متفاوتة ولكن بغير استثناء. ثالثاً: إن تعظيم القوة العربية أمر يتجاوز الجيوش والمؤسسات العسكرية ليصل بنا إلى أهمية التفوق الاقتصادي ودخول ميدان البحث العلمي اعتماداً على تعليم عصري حديث وانفتاح حقيقي على العالم المعاصر، فما كان لصدام حسين أن يقدم على مغامراته لو أنه عاش في الخارج بضع سنوات واحتك بشعوب أخرى وتجارب أمم مختلفة، فالديكتاتورية وليدة التفرد، والطغيان ابن شرعي للعزلة والابتعاد من الواقع مع غياب في الرؤية وانعدام لإرادة التغيير نحو الأفضل. إن دافعي للكتابة عن هذا الحدث الجلل في تاريخنا العربي المعاصر هو الاستفادة من دروس الماضي وأخطائه الكبرى. ولا شك في أن أمة لا تتعلم من أخطائها لا تكون قادرة على دخول المستقبل في وضع أفضل من ماضيها فضلاً عن حاضرها، وما زلنا نشعر حتى اليوم بتداعيات نكسة حزيران 1967 وتداعيات غزو العراق لـلكويت في العام 1990، كي نستدرك قائلين أن دروس الماضي هي رصيدنا الباقي الذي يجب أن نتعلم منه حتى ندرك معه أن ذاكرة الأمة هي مخزونها الحضاري وإلهامها التاريخي ورؤيتها الباقية.

مشاركة :