من صوامع القمح وتوريده إلى تلقي العلاج وفواتيره، ومن منظومة الدروس الخصوصية وفساد المنظومة المدرسية إلى «شاومينغ بيغشش ثانوية عامة»، ومن تجديد مكتب الوزيرة إلى سداد فواتير إقامة الوزير، ومن بعثة أولمبية تخدم الإداريين على حساب اللاعبين إلى عصابات تزوير بيع أراضي الدولة، يُحلق الفساد على رؤوس الكبار. لكنه أيضاً يعشش في أدمغة الصغار، حيث المصلحة الحكومية تُنجز بدفع «الشاي»، والمخالفة المرورية تُرفع بدس ورقة بخمسين في يد الأمين، والوثيقة الرسمية تُختم بالامتثال لسياسة الدرج المفتوح، والشهادة الصحية تصدر من دون كشف طبي بسداد «المعلوم»، وأمر إزالة الفيلا الأثرية يُبرم بتحلية فم المسؤول، وإضافة طوابق مخالفة يُنجز بـ «تأبيج» صغار الموظفين. صغار الموظفين وكبارهم، والمواطنون كلهم، والمسؤولون السابق منهم والحالي، والرؤساء الموجود منهم والغائب يعلم جميعهم أن الفساد لم يصل «للرُكب» فحسب كما قال رئيس ديوان الرئاسة السابق زكريا عزمي. كما لم يعد مقتصراً على «كوب شاي» حيناً أو دفع إتاوة حيناً آخر أو الإذعان لدرج الموظف المفتوح دائماً، بل أصبح أسلوب حياة. لكن أسلوب الحياة الذي تقدر كلفته بالبلايين ولا تخضع لرقيب وحسيب أو تُدرج في موازنة وحسابات أو تُطرق على منبر ونقاش، يبدو خالياً من المنطق غارقاً في الألغاز في ظل أزمة اقتصادية طاحنة تخسف بالجنيه الأرض، وتقرض من صندوق النقد، وتفرض ضريبة قيمة مضافة، وتلهب فواتير خدمات أساسية وتلوح بأن المقبل أغلى وأقسى وأفدح وأفظع. فظاعة الأرقام وفداحة الإحصاءات لا تدع مجالاً لملحمة «الفساد موجود في كل العالم» أو منظومة «مصر ليست استثناء» أو أوركسترا «نحارب الفساد بيد من حديد». تقرير سنوي أصدره «المركز العربي للنزاهة والشفافية» عن الفساد في مصر في العام 2015 صنّف القطاعات العاملة في مصر في ترتيب هرمي يبدأ بالأعتى فساداً. وجاءت هيئة الاستثمار - المعقود عليها آمال «الشباك الواحد» و «القانون المعدل» من أجل جذب الاستثمارات وتيسير الإجراءات ودفع عجلة التنمية والإنتاج - في المركز الأول في تلقي الرشاوى لكبار الموظفين. وفي سباق الفساد بين فرق الناشئين من صغار الموظفين، احتل موظفو مكاتب التوثيق الصدارة في تلقي الرشاوى. واقتسم موظفو وزارة النقل والجهاز المركزي للمحاسبات المرتبة الثانية، في حين جاءت وزارة الصحة ومديريات القوى العاملة في المرتبة الثالثة. وتبوأت وزارة الإسكان ومعها الإدارات التعليمية المرتبة الرابعة. وهلم جرا. تقرير آخر عن الفساد أيضاً صادر عن «شركاء من أجل الشفافية» عن الفترة من تموز (يوليو) 2015 إلى حزيران (يونيو) 2016 ويعتمد على رصد عدد وقائع الفساد، وضع وزارة التموين في الصدارة بـ 215 واقعة أي بنسبة نحو 20 في المئة من مجموع وقائع الفساد، تليها المحليات بنسبة 11.5 في المئة، ثم وزارة الزراعة بنسبة نحو ثمانية في المئة، ثم وزارة الداخلية بنحو سبعة في المئة، تليها وزارة التربية والتعليم بنسبة نحو خمسة في المئة، ثم المال بنحو أربعة ونصف في المئة، وأخيراً الإسكان بنسبة نحو ثلاثة في المئة. نسب مئوية وأرقام مليونية وتقديرات بليونية تصدع رؤوس المسؤولين وتوجع قلوب المواطنين. مواطنة تشكو فساد موظفي التعليم الذين أبلغوها بحتمية إعادة سداد 55 جنيهاً للمرة الثانية عن كل ملف لابن من أبنائها الثلاثة المنقولين من المرحلة الابتدائية إلى الإعدادية ومن الإعدادية إلى الثانوية لأن الملفات الأولى «ضاعت». مواطن على باب وحدة مرور يقسم أنه اضطر إلى دفع «المعلوم» لزوم تجديد رخصة القيادة لثلاثة أمناء شرطة بدل أمين واحد كما جرت عادة الفساد في أيامه الخوالي. أيام الفساد الخوالي تدغدغ مشاعر أعداد متزايدة من المصريين هذه الآونة. ورشة بيع قطع غيار سيارات مستعملة في شارع شبرا الرئيس وضعت لافتة ضخمة على مدخل المحل تحمل صورة للرئيس السابق حسني مبارك معنونة «حملة تكريم الرئيس مبارك» ومذيلة بسببين: «علشان الأمن والأمان والاقتصاد والاستقرار» و «علشان إحنا شعب أصيل مش ناكر للجميل»، ومضيفاً سبباً شفهياً بسؤاله عن سر المجاهرة: «علشان الفساد في عصره كان ملموماً ومسعراً»، أي محدوداً وذا تسعيرة معروفة. فعلياً، لم يعد الفساد في حد ذاته يقلق مضاجع المصريين، بل تسعيرته وحجم انتشاره. لم يعد الفساد في العرف الشعبي وصمة لصيقة بـ «الفلول»، بل تحول صفة مرتبطة بالحياة اليومية. وقد نَجم عن ذلك تخفيف حدة الكراهية المكبوتة وميول الانتقام المكنونة لرموز نظام مبارك. كما لم يعد منظومة تجب محاربتها في المطلق، بل تحول قضية طبقية بين صغار فاسدين يتحججون بأن فسادهم دلع مقارنة بالحيتان، وحيتان يجادلون بأنهم ليسوا وحدهم الفاسدين. وبات جلياً أن حجمه المتفشي ومجاله المتغلغل لا يعالج بحملة إعلانية تناشد الضمير أو تخاطب الوجدان أو تستنفر الأخلاق، ومنطقه المبرر خرج عن حيز خطاب ديني ظل مغرقاً في أي القدمين تطأ الحمام أولاً، وقواعد نكاح الصغيرات دائماً، بل يحتاج يداً من حديد وقبضة من نار وسرعة تنافس الضوء، إضافة إلى برلمان مقدام وأذرع قانون تطاول الجميع من أصغر الفاسدين إلى أكبرهم، وانتهاج خطة كاملة مدروسة مستمرة لمحاربة الفساد لا تخضع لمعايير موسمية أو مقاييس استثنائية أو محاذير سياسية، وذلك لأن «المواطنين أولى بالكام بليون كلفة الفساد»، كما أشارت مواطنة واقعة بين تلبية رغبة الموظف في «الحلاوة» ومواجهة السبع دوخات لختم ورقة المعاش علّه يعينها على أزمة اقتصادية طاحنة.
مشاركة :