عن البوركيني والعلمانية ونداء لمسلمي فرنسا

  • 8/27/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

قامت بلدية مدينة "كان" الفرنسية بإصدار قرار بمنع ارتداء" البوركيني" على سواحلها الأسبوع الماضي، وحين تم الاعتراض على القرار أيدت المحكمة الإدارية بمستواها الأول قرار السلطات اليمينية وتبعتها سبع مدن فرنسية في منع ارتداء ما يسمى بـ"المايوه الشرعي". صاحب هذا القرار نقاش حاد في فرنسا وفي الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وتوزعت الآراء فيها بين مؤيد للقرار باعتبار النقاب أصبح رمزاً أساسياً لأيديولوجيا متطرفة، وبين من رأى في قرار البلديات الفرنسية نوعاً من التعدي على حرية الفرد الشخصية، وبكونها خطوة ليست ضرورية، ولم تكن لتحتاجها فرنسا في سياق استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب. وبنفس القدر أثارت الخطوة الكثير من اللغط والشكاوى من قِبل مسلمين في فرنسا وفي أوروبا ممن رأوا في الخطوة استهدافاً لهم. ابتداء من الحجاب، ومروراً بالنقاب، وليس انتهاء بالبوركيني، تبدو النقاشات حول ملابس المرأة المسلمة في فرنسا بلانهاية قريبة، ولعل السبب في هذا الجدل يعود إلى خصوصية "العلمانية" الفرنسية التي لديها حساسية تجاه إبراز كل ما هو "ديني"، سواء كان هذا "الديني" إسلامياً أم يهودياً أو حتى كان مسيحياً. وسبب هذه الحساسية الفرنسية الزائدة تجاه الدين يعود إلى السياق التاريخي الذي نشأت وتطورت فيه العلمانية الفرنسية، والذي كان موسوماً بقدر كبير من المآسي وتراجيديا الحروب الدينية قبل قرنين، وهو ما جعل لفرنسا قراءة خاصة مثيرة للجدل، مقارنة بما هو عليه الحال في الدول الأنجلوساكسونية أو دول أخرى مثل ألمانيا وإسبانيا وشمال أوروبا. في سياق هذا التعامل الفرنسي، يمكن الإشارة إلى أن السلطات الفرنسية قامت باقتحام إحدى الكنائس بعد أيام قليلة من حادثة ذبح القس الكاثوليكي من قِبل أحد مجندي داعش. ورغم تعاطف الرأي العام مع الحادثة فإن السلطات الفرنسية لم تتوانَ عن سحب أحد القسيسين المعترضين على البيع في سبيل تطبيق القانون. قبل سنوات أيضاً منعت سلطات مدينة ليون تأجير صالة كان قد طلبها منتسبون للطائفة اليهودية؛ لممارسة شعائرهم، ووصلت القضية من الاختصام بين السلطات وممثلي الطائفة إلى المجلس الدستوري الفرنسي الذي قام بإدانة وإبطال قرار المدينة. كذلك قبل شهرين فقط أبطل القضاء الإداري الفرنسي قراراً لرئيس بلدية نيس كان قد قضى بمنع افتتاح أحد المساجد هناك. وانتصاراً للمسلمين المختصمين أيضاً أدانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قبل خمس سنوات زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، على خلفية تصريحات لها بحق المسلمين الذين كانوا يمارسون الصلاة في باريس. هذه فقط أمثلة لتوضيح الذهنية الفرنسية وخصوصية تجربتها العلمانية وحساسيتها تجاه ظهور أية رموز دينية، سواء كانت إسلامية أو يهودية أو مسيحية أو هندوسية أو أياً كانت. فَهْمُ مسلمي فرنسا لحساسية بلدهم تجاه كل ما هو "ديني" أمر مهم جداً، وسيساعدهم في التعامل بمرونة مع مشكلاتهم أكثر من تكييفهم للمسألة على أن فرنسا تستهدف كل ما هو "إسلامي"، فالفرق هنا كبير جداً بين الحالتين، ويمكن في هذا السياق سرد عشرات الأمثلة التي توضح خصوصية التجربة العلمانية الفرنسية تجاه الأديان عموماً، وليس الإسلام فقط. والآن ما الذي يمكن أن تقوم به الجالية الفرنسية هناك إزاء هذا النوع من القرارات الإدارية، والتي قد تفهم بأنها تضييق لحريات المسلمين الدينية؟ بكل بساطة عبر لجوء المتضررين للأدوات القانونية والدستورية الكثيرة والمتوافرة لدى مواطني ومسلمي فرنسا للقيام بنقض هذه القرارات الشائكة تماماً، مثلما تفعل بقية الطوائف الدينية التي تكيفت مع صرامة النموذج العلماني الفرنسي. وهذه الأدوات تبدأ من الطعن بالقرار أمام مجلس الدولة الفرنسي "المستوى الأعلى للقضاء الإداري"، وهو طريق مضمون لربح القضية بحكم السوابق الكثيرة المنتصرة للحقوق والحريات الأساسية في مواجهة قرارات السلطات الإدارية، وما سيدعم قضية البوركيني الأخيرة هو ضعف الحجج التي قدمتها السلطات الإدارية لمنع ارتدائه على السواحل، بالنظر إلى أن هذا القرار افتقد للقدر الكافي من الموضوعية، وأتى في أجواء سيطر فيها الحزن والخوف من العمليات الإرهابية التي حدثت قبل أيام من هذه القرارات. إذا لم يتم إنصافهم من خلال قضاء مجلس الدولة فأمامهم طريق القضاء الدستوري الفرنسي، باعتبار القرار يتدخل في حق دستوري وحرية من الحريات الأساسية للفرد التي تشكل عماداً للدستور الفرنسي. وإذا لم تفدهم كل هذه الطعون في الهرم القضائي الفرنسي، فيوجد طريق آخر هو طريق المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وفي كل هذه الطرق والأدوات السابقة الذكر توجد شواهد كثيرة على انتصارها لحقوق مسلمين ومسلمات في قضاياهم المتعلقة بالحجاب والحريات الدينية ودور العبادة. في فرنسا والدول الأوروبية عموماً التي ترسخت فيها قيم الديمقراطية والعلمانية في حال حصلت فيها تجاوزات لحق أو حرية من الحريات الفردية والأساسية من قِبل السلطات الإدارية، فهناك في المقابل ترسانة من الأدوات القانونية الكفيلة بانتزاع الحقوق وإبطال التجاوزات دون الحاجة للمبالغة في الشكوى والصراخ وتشغيل أسطوانة المؤامرة التي تستهدف الإسلام والمسلمين. وجود هذه الضمانات والمرجعيات القانونية والدستورية هو ما يميز هذه الدول، مقارنة ببلداننا التي يطلق فيها العنان للأجهزة الأمنية والسلطات التنفيذية دون وجود أي ضمانات ومرجعيات مقابلة تضمن احترام الدساتير والمعاهدات الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان، وتوازن بين السلطة والمسؤولية والمحاسبة، وتعمل على الحد من تمادي السلطة وردعها ونزع مخالبها. في العلمانية جميع الحقوق محفوظة، وبخلاف قضية النقاب الذي جرى منعه في فرنسا وسويسرا لاعتبارات أمنية كثيرة، خصوصاً في مثل هذه الظروف الأمنية الصعبة، فإن لدى القضاء والدستور الفرنسي وتراثها العلماني وكذلك المؤسسات القضائية الأوروبية ما يقف في صالح تلك الفئة من المسلمين، التي ترى في القرار الأخير مضايقة لها، وبحكم معرفة مسبقة بحالات شبيهة وبسوابق القضاء الدستوري الفرنسي أتوقع قريباً قراراً من مجلس الدولة، أو المجلس الدستوري الفرنسي بإبطال هذا القرار. وأخيراً لو أراد مسلمو وعرب فرنسا وأوروبا عموماً أن يعبروا عن هويتهم ويفيدوا بلدانهم الأصلية التي قدموا منها، فعليهم أن يندمجوا فعلاً في المجتمعات الأوروبية، والابتعاد عن صدامهم الدائم والعبثي مع القيم والثقافة السائدة في بلدانهم الجديدة، ومن ثم العمل على إقامة مبادرات ولوبيات سياسية وثقافية في خدمة قضايا بلدانهم الأصلية، كقضايا الحريات والديمقراطية، وفلسطين، وحقوق الإنسان، بدلاً من استهلاك طاقاتهم في قضايا أقل ما توصف بأنها سخيفة، مثل الحجاب والنقاب، والتي لن تفيدهم بشيء في خدمة القضايا العربية، وما أكثرها من ملفات تستحق اهتماماً حقيقياً من قِبل هذه الجاليات. انظروا ماذا تفعل الأقليات الأخرى وتعلموا منها على الأقل، ففي السنوات الأخيرة استطاعت الأقلية الأرمينية أن توصل قضيتها إلى المؤسسات السياسية الفرنسية والأوروبية، واستطاعت انتزاع اعتراف بالمذابح التركية في حق بلادها الأصلية أرمينيا، وبدوها تقوم بعض اللوبيات اليهودية بدعم قضايا إسرائيل على المستوى السياسي، وضمان وقوف السياسة الخارجية الفرنسية بجانبها، وبنفس المستوى يمكن أن نتحدث عن روافع سياسية للأكراد في البلدان الأوروبية لصالح القضية الكردية، وكل هذه الأقليات تجدها مندمجة في المجتمع الفرنسي والأوروبي، ولا تعمد لمصادمته كما تفعل الجاليات العربية، التي تظهر وكأنه لم يتبق لها من اهتمامات سوى طريقة لبسهم وشربهم التي يستفزون بها الدول والمجتمعات الحاضنة لهم، ويتناسون ما هو أهم وأجدر بالاهتمام. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :