هل تجد صعوبة في تذكّر الأسماء؟

  • 8/28/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

«هل تعرف تلك الفتاة التي كانت في صفّك»؟ «هل يمكنك حصر الخيارات»؟ «أعني تلك الفتاة الطويلة، صاحبة الشعر الأشقر الداكن. لكني أظن أنها كانت تصبغه. كانت تعيش في شارع قريب من شارعنا قبل أن ينفصل والداها وتنتقل والدتها إلى شقة عاشت فيها عائلة جونز قبل رحيلها إلى أستراليا. كانت شقيقتها صديقة نسيبك كانت ترتدي دوماً معطفاً أحمر اللون لكنه لم يكن يناسبها. هل تعرف عمن أتكلم»؟ «ما اسمها»؟ «لا فكرة لديّ»! أقمتُ عدداً هائلاً من المحادثات المماثلة مع والدتي أو أفراد آخرين من عائلتي. من الواضح أنهم لم يكونوا مصابين بأي خلل في عمل الذاكرة أو في استيعاب التفاصيل. كانوا يستطيعون تقديم بيانات شخصية عن أي فرد أكثر من أهم موسوعة على الإنترنت! لكن يقول كثيرون إنهم يجدون صعوبة في تذكّر الأسماء، حتى لو كانوا ينظرون مباشرةً إلى الشخص الذي يحاولون تذكّر اسمه. حصل ذلك معي شخصياً. لماذا يحصل ذلك؟ لماذا نستطيع التعرّف إلى وجه الشخص ولكننا ننسى اسمه؟ هل يكون العاملان مؤثرَين بالدرجة نفسها لتحديد هوية الطرف الآخر؟ يجب أن نتعمّق في طريقة عمل الذاكرة البشرية لاستيعاب حقيقة ما يحصل. أولاً، تقدّم الوجوه معلومات كثيرة عن الشخص. تشكّل تعابير الوجه ونظرات العيون وحركات الفم وسائل محورية للتواصل بين البشر. تكشف تعابير الوجه معطيات كثيرة عن الشخص: لون العيون، لون الشعر، بنية العظام، ترتيب الأسنان. يمكن استعمالها كلها للتعرّف إلى ذلك الفرد. إنها معطيات كثيرة لدرجة أنّ الدماغ البشري طوّر على ما يبدو خصائص عدة لتسهيل التعرّف إلى الوجوه وتحليلها استناداً إلى مبدأ رصد الأنماط ووجود قابلية عامة لمعرفة الوجوه بين صور عشوائية. مقارنةً بهذه المعطيات كلها، ما الذي يقدّمه اسم الشخص؟ قد يقدّم بعض المؤشرات على خلفيته أو أصله الثقافي لكنه يقتصر على كلمتين عموماً ويكون جزءاً من مقاطع صوتية عشوائية أو سلسلة قصيرة من الأصوات التي ترتبط بوجه معين. ماذا في ذلك؟ كي يتحوّل جزء عشوائي من معلومة واعية من ذكرى قصيرة الأمد إلى ذكرى طويلة الأمد، لا بد من تكراره والتدرّب عليه على ما يبدو. لكن يمكن تفويت هذه الخطوة أحياناً، وتحديداً إذا كانت المعلومة مرتبطة بعامل مهم أو تحفيزي جداً، ما يعني تشكّل ذكرى متقطّعة. إذا قابلنا أحداً وكان أجمل شخص رأيناه على الإطلاق ووقعنا في حبه فوراً، سنهمس باسم الشخص الذي حرّك مشاعرنا طوال أسابيع! لكن لا يحصل هذا الموقف حين نقابل أي شخص (لحسن الحظ!). إذا كنت تريد أن تحفظ اسم الشخص، لا يمكنك أن تضمن تذكّره إلا إذا تدربت عليه حين يكون في الذاكرة قصيرة الأمد. لكن تتطلب هذه المقاربة بعض الوقت وتستعمل موارد عقلية معيّنة. يعني ذلك أن الفكرة التي تراودك يمكن كتابتها بسهولة أو استبدالها بالعنصر الذي تصادفه وتضطر إلى تحليله في المرحلة اللاحقة. حين تقابل شخصاً للمرة الأولى، نادراً ما يكتفي بقول اسمه. ستخوض محادثة معه عن منطقته وعمله وهواياته وما يريده منك... وفق آداب السلوك الاجتماعي، يجب أن نتبادل الدعابات في اللقاء الأول (حتى لو لم نكن مهتمين بالطرف الآخر)، لكن حتى الدعابة التي نقولها لذلك الشخص تزيد احتمال أن نطرد اسمه خارج الذاكرة قصيرة الأمد قبل أن نتمكن من تشفيره. يعرف معظم الناس عشرات الأسماء ولا يحتاجون إلى بذل جهود كبرى في كل مرة لحفظ اسم جديد لأن الذاكرة تربط بين الاسم الذي نسمعه والشخص الذي نتفاعل معه، لذا يتشكّل رابط في الدماغ بين الشخص واسمه. حين نُوسّع ذلك التفاعل، تزيد الروابط التي نُشكّلها مع الشخص واسمه، لذا لا يعود التدرّب الواعي ضرورياً. تحصل العملية على مستوى الوعي الباطني نتيجة تجربتنا المطوّلة في التواصل مع ذلك الشخص. استراتيجيات وتفاصيل يستعمل الدماغ استراتيجيات عدة للاستفادة القصوى من الذاكرة قصيرة الأمد: إذا حصلتَ على تفاصيل كثيرة دفعةً واحدة، ستميل الذاكرة في الدماغ إلى التركيز على أول وآخر ما تسمعه («الأثر الأولي» و«الأثر الأخير» على التوالي)، لذا يكسب اسم الشخص على الأرجح ثقلاً إضافياً خلال لحظات التعارف العامة إذا كان أول ما تسمعه (هذا ما يحصل عموماً). لا يقتصر الأمر على ذلك. يبرز فارق آخر بين الذاكرة قصيرة الأمد والذاكرة طويلة الأمد لكنه لم يخضع للنقاش حتى الآن: يفضّل نوعا الذاكرة أشكالاً مختلفة عموماً من المعلومات التي يجب تحليلها. تكون الذاكرة قصيرة الأمد سمعية في معظمها وتركّز على تحليل المعلومات التي تتخذ شكل كلمات وأصوات معيّنة. لذا يحصل حوار في داخلك وتفكّر باستعمال العبارات واللغة بدل سلسلة الصور التي تشبه الأفلام. يكون اسم الشخص مثالاً عن المعلومات السمعية. ستسمع كلمات وتفكّر بها بناءً على الأصوات التي تُشكّلها. في المقابل، تتّكل الذاكرة طويلة الأمد بشدة على النظر والصفات الدلالية (معنى الكلمات بدل الأصوات التي تُشكّلها). لذا يكون تذكّر الحافز البصري الغني، مثل وجه الشخص، أسهل على المدى الطويل من الحافز السمعي العشوائي كأي اسم غير مألوف. من الناحية الموضوعية، لا يكون وجه الشخص واسمه مترابطَين بشكل عام. قد تسمع الناس يقولون لك «تشبه فلاناً»، لكن يستحيل أن تتوقع أي اسم بدقة عبر النظر إلى وجه معيّن إلا إذا طبع ذلك الشخص وشماً باسمه على جبينه (إنها ميزة بصرية واضحة يصعب نسيانها!). لنقل إن اسم الشخص ووجهه تخزّنا بنجاح في الذاكرة طويلة الأمد. هذا أم ممتاز! لكنها نصف المعركة! يجب أن تحلل هذه المعلومة عند الحاجة وقد تبيّن للأسف أن المهمّة قد لا تكون سهلة. الدماغ عبارة عن شبكة معقدة جداً من الروابط والتشابكات. تتألف الذكريات طويلة الأمد من تلك الروابط أو نقاط الاشتباك العصبي. قد تحمل خلية عصبية واحدة عشرات آلاف النقاط المماثلة التي تتصل بخلايا عصبية أخرى ويشمل الدماغ مليارات الخلايا العصبية، لكن تشير تلك النقاط إلى وجود رابط بين ذكرى معينة والمناطق «التنفيذية» (الأجزاء المسؤولة عن التحليل المنطقي واتخاذ القرارات) مثل القشرة الأمامية التي تنتظر وصول المعلومات إلى الذاكرة. تسمح تلك الروابط للأجزاء المرتبطة بالتفكير في دماغك ببلوغ الذكريات. كلما توسّعت الروابط التي تحملها ذكرى معينة، تزداد قوة نقطة الاشتباك العصبي وتزداد سهولة الوصول إليها، مثلما يكون التوجه إلى مكانٍ فيه طرقات ووسائل نقل كثيرة أسهل من الذهاب إلى حظيرة مهجورة في وسط البرية. سيَرِد اسم الشريك الذي ارتبطتَ به منذ فترة طويلة ووجهه في جزء كبير من ذكرياتك مثلاً، لذا سيبقيان في طليعة أفكارك. لن يحظى آخرون بالمعاملة نفسها (إلا إذا كانت علاقاتك غير نموذجية!)، لذا ستزداد صعوبة تذكّر أسمائهم. لكن إذا خزّن الدماغ وجه شخص واسمه، لماذا نتذكر في النهاية شخصاً دون سواه؟ يكون الدماغ مزوداً بنظام تذكّر متفاوت الأداء على مستوى استرجاع الذكريات، ما ينتج شعوراً شائعاً لكن مزعجاً: التعرّف إلى الشخص من دون تذكّر شيء عن اسمه! يحصل ذلك لأن الدماغ يميّز بين المواقف المألوفة وعملية التذكّر. تعني المواقف المألوفة أن تقابل شخصاً أو شيئاً وتعرف أنك مررت بهذا الموقف سابقاً. لكن لن تعرف أي معلومة أخرى. كل ما يمكنك قوله هو أن ذلك الشخص أو الشيء موجود في ذكرياتك. أما عملية التذكّر، فتحصل حين تستطيع استرجاع الذكرى الأصلية عن طريقة تعرّفك إلى ذلك الشخص وسبب ذلك التعارف. يؤكد رصد هذه التفاصيل على وجود الذكرى. يستعمل الدماغ طرقاً ووسائل عدة لإيقاظ الذكرى، لكن لا داعي «لتنشيط» تلك الذكرى للتأكد من وجودها. حين تحاول حفظ ملف على حاسوبك، ألا تظهر لك عبارة «هذا الملف موجود أصلاً»؟ ما يحصل في الدماغ مشابه. ستكون متأكداً من وجود المعلومة لكنك لا تستطيع معرفة تفاصيلها بعد. من الواضح أن هذا النظام مفيد لأننا لن نضطر إلى ستعمال نسبة مفرطة من القوة الدماغية القيّمة كي نعرف إذا واجهنا وضعاً مماثلاً في السابق. في الواقع القاسي للعالم الطبيعي، يكون كل ما هو مألوف غير ضار، لذا يمكن التركيز على الأحداث المرتقبة. من الناحية التطورية، يُعتبر عمل الدماغ بهذه الطريقة منطقياً. بما أن الوجه يقدّم معلومات أكثر من الاسم، تكون الوجوه «مألوفة» بدرجة إضافية. عتبة التذكّر لكن لا يعني ذلك أن الناس المعاصرين لا ينزعجون حين يضطرون إلى قامة حديث قصير مع أشخاص يعرفونهم لكنهم لا يستطيعون تذكّرهم في تلك اللحظة. يمكن أن يفهم معظم الناس هذا الوضع، حين يتحول التعرّف إلى الآخر إلى عملية تذكّر كاملة. هذا ما يسمّيه بعض العلماء «عتبة التذكّر» حيث يصبح وضع معيّن مألوفاً بشكل متزايد إلى أن يبلغ نقطة حاسمة وتنشط الذكرى الأصلية. تحمل الذكرى المنشودة ذكريات أخرى مرتبطة بها ويمكن إطلاقها وإنشاء شكل من التحفيز الجانبي أو الخفيف للذكرى المستهدفة (مثل إضاءة منزل مظلم نتيجة عرض الألعاب النارية لدى الجيران!). لكن لن تنشط الذكرى المستهدفة قبل تحفيزها فوق عتبة محددة. هل سمعتَ بعبارة «تدفقت الذكريات كلها دفعةً واحدة» أو شعرتَ بأن الجواب «على طرف لسانك» قبل أن تتذكّره فجأةً؟ هذا ما يحصل في ظروف مماثلة. تتلقى الذكرى التي أطلقت عملية التعرّف ما يكفي من الحوافز وتنشط أخيراً (فتوقظ الألعاب النارية لدى الجيران المقيمين في المنزل ويُشعل هؤلاء جميع الأضواء)، لذا تصبح جميع المعلومات المترابطة متاحة في تلك اللحظة. ستنشط ذاكرتك رسمياً ويمكن أن يستأنف طرف لسانك واجباته العادية التي ترتبط بتذوق النكهات بدل تقديم مساحة تخزين غير متوقعة لمعلومات تافهة. بشكل عام، يمكن تذكّر الوجوه أكثر من الأسماء لأنها «ملموسة» بينما تتطلب معرفة الاسم على الأرجح عملية تذكّر كاملة بدل التعرّف إليه بكل بساطة. من خلال هذه المعلومات آمل أن تفهموا أنني لا أقصد أن أكون وقحاً إذا تقابلنا للمرة الثانية يوماً ولم أتذكّر أسماءكم! قد أُعتَبر وقحاً من حيث آداب السلوك الاجتماعي. لكنكم تعرفون السبب الآن على الأقل!

مشاركة :