أسباب النبوغ الخلدوني 3-3

  • 8/29/2016
  • 00:00
  • 27
  • 0
  • 0
news-picture

ذكرتُ في المقال السابق أن من قواعد أخبار التاريخ أن تَسلَمَ الأخبارُ مِن شُذوذٍ في مَتْنِها وجوهرها، ومِن عِلَّةٍ تقدح في سندها أو مَتْنها، فللشُّذوذ في أخبار التاريخ صورٌ متعدِّدة، منها أنْ يَرْويَ الثقةُ خبراً يُخالفُ فيه ما رواه النَّاس، ومنها أن يتفرَّد الثِّقَةُ بمخالفة مَن هو أوثقُ منه، فيحصل الشذوذ الذي يقدح في صحَّة الخبر، وأما العِلَّةُ في الخبر، فَمَدارُها على بيان الاختلاف في الروايات التاريخية وإمكان الجمع بينها، والعلَّة قد تقع في سند الخبر، وقد تقع في مَتْنِهِ مِن أوْجُهٍ مختلفة، وربَّما وَقَعَتْ العلَّةُ في أخبار مَن يوثَقُ به، ولذلك عدَّ العلماءُ العلَّةَ مِن أغمض أنواع علوم المصطلح وأدقِّها، فابن خلدون، آخذٌ بهذا العلم الذي لا يتشدَّد في أخبار التاريخ تشدُّدَه في الأخبار النَّبويَّة، فتراه يقول: (وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النَّقل من المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرَّد النقل، غثَّاً أو سمينا، ولم يَعرضوها على أصولها) فهو يشير بأصولها إلى مبحثي العِلَّة والشُّذوذ، ومثل ذلك قوله: (وحينئذ يَعرض -أي المؤرِّخ- خبرَ المنقول على ما عِنده من القواعد والأصول، فإنْ وافَقَها وجرى على مقتضاها كان –أي الخبر التاريخي- صحيحاً، وإلا زيَّفَهُ واستغنى عنه) وقوله: (فإذا كان السَّامعُ عارفا بطبائع الحوادث والأحوال في الوجود ومقتضياتها، أعانَهُ ذلك في تمحيص الخبر، على تمييز الصِّدق مِن الكذب) فهو يشير إلى أنَّ المؤرِّخَ إذا تَفَرَّدَ بِنَقْلِ خبرٍ جَرَتْ العادةُ أنه مما يشيع وينتشر ويعرفه الناس، أي تَتَوافرُ الدَّوَاعِي على نَقْلِهِ، وهو ما يُسمِّيه العلماءُ بالخبر الذي تَعُمُّ به البَلْوى، فإنَّ تَفَرُّدَهُ بذلك الخبر يُوهِمُ الكذب فيه، لأن الخبر الذي تقضي العادةُ استفاضةَ نَقْلِه، يَكثرُ السُّؤال عنه، وما كَثُرَ السُّؤال عنه، يَكثر الجوابُ فيه، وما كَثُرَ الجوابُ فيه كَثُرَ نَقْلُه، فإذا انفرد به واحدٌ دون الناس، كان انفرادُه ريبةً فيه، بخلاف ما إذا انفرد الواحدُ برواية خبرٍ لا تَعُمُّ به البَلْوَى، فهو أَبْعَدُ مِن الكذب، وأما الأخبار التي يُحيل العقلُ وقوعها، لِبُعْدِها عن الإمكان، فهذه لا تَجري عليها أحكامُ الجرح والتعديل، لأنها باطلةٌ ابتداءً، قال ابن خلدون: ( إذا كان – يعني الخبر - مستحيلا، فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح، ولقد عَدَّ أهلُ النظر مِن المطاعن في الخبر، استحالةُ مدلولِ اللفظ وتأويلُه بما لا يَقبله العقل) فإذا كان مدلولُ اللفظ المنقول غير ممكنٍ، فَإننا نقدح في صِحَّته، ويضربُ ابن خلدون أغلاطاً كثيرةً للمؤرِّخين، في عدم التِفَاتِهِم إلى قواعد علم المصطلح، للتَّمييز بين صحيح الأخبار وسقيمها، وبين الشَّاذِّ منها والمحفوظ، فمِن ذلك أنه عَابَ على بعض المؤرِّخين ما نَقَلوه مِن نقولاتِ المبتَدِعة عن الخليفة هارون الرشيد رحمه الله أنه كان يَشرب الخمر، وهو نَقْلٌ يُخالف المعروفَ مِن سيرته، ويخالف المنقول بطُرُقٍ مُستفيضةٍ عنه مِن وَرَعِهِ وديانته، وقد علَّق على ذلك ابن خلدون بقوله: (فحاشا لله، ما عَلِمْنا عليه مِن سُوء، وأين هذا مِن حال الرشيد) ويقول: (وكثيرا ما يَعْرِض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة، ويَنْقُلُونَها، وتُؤْثَرُ عنهم، كما نقله المسعودي عن الإسكندر لـَمَّا صَدَّتْهُ دوابُّ البحر عن بناء الإسكندرية، وكيف اتَّخَذ صندوق الزجاج، وغاصَ فيه إلى قعر البحر، حتى صوَّر تلك الدَّواب الشيطانية التي رآها، وعَمِلَ تماثيلَها مِن أجسادٍ معدنية، ونَصَبَها حِذاءَ البُنْيان، ففرَّت تلك الدوابُّ حين خرجَتْ وعايَنَتْها، وتَمَّ بناؤها، في حكايةٍ طويلةٍ مِن أحاديثِ خرافةٍ مستحيلة) وقوله: (ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضا في تمثال الزَّرزور الذي بِرومة، تجتمع إليه الزَّرازير في يومٍ معلومٍ مِن السَّنة حاملةً للزيتون، ومِنه يَتَّخذون زَيْتَهم، وانظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطبيعي في اتِّخاذ الزيت) وقوله: (ومنها ما نقله البَكْريُّ في بناء المدينة المسماة “ذات الأبواب” تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة، وتشتمل على عشرة آلاف باب! والمدن إنِّـما اتُّخِذَت للتَّحَصُّن والاعتصام كما يأتي، وهذه خرجت عن أنْ يُحَاطَ بها، فلا يكون فيها حصنٌ ولا مُعْتَصَم) وأختم بالقول بأن المتأمِّل في كتب الفقه والأصول يُدرك أنَّ عِلْمَ العمران البشري كان عند مؤرِّخي الإسلام مُسمَّىً لا اسمَ له، فصار بعد ابن خلدون عِلْماً لَهُ اسمٌ يُعرف به، والمأمول من أساتذة الحديث أنْ لا ينعزلوا عن الواقع، وأنْ يُكملوا مسيرةَ السابقين، فيُعْمِلوا قواعد المصطلح كالإجازة والوِجادَة وغيرها في واقعنا المعاصر، كالشهادات العلميِّة وسائر صور التوثيق، في ميدان البحث العلمي وفي أنظمة الحكومات، عندها ستتضاءل آفاتٌ، كالتزوير وغيره.

مشاركة :