لقد ترسخت في مسار الفكر العربي قيّم وتقاليد قلما تجد لها مثيلاً في تاريخ المجتمعات البشرية، وواحدة من هذه التقاليد هي المنهجية النعامية. فالنعام، وحينما يواجه خطراً داهماً ما، يلجأ إلى إتباع منهجية سلوكية غريبة. فبدلاً من مواجهة الظرف والخطر، أما بالركض أو المواجهة، وهما الأسلوبين الطبيعيين في الحياة البريّة، يلجأ إلى حيلة هروبية، آليتها هي أن يدس رأسه في الرمال، متعامياً عن رؤية الخطر، وكأنه بهذا الفعل ينفي وجود الخطر في أصله. ولإنفراد النعام بهذه الآلية أصبح مضرب المثل عند العرب، أو في الثقافة العربية الموروثة، لكل من يحاول أن يهرب من مواجهة التحديات التي تواجهه بإتباع هذا الأسلوب فيُشبه المرء في مثل هذه المواقف بـ النعام – ومفردها نعامة-. النعامة وثقافة الستر والفضح ويبدو لي أن هذا السلوك النعامي هو من التقاليد الراسخة في الفكر العربي، والله أعلم. إذ أننا درجنا في محيطنا السياسي والفكري على عدم تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية. ليس جبناً شخصياً، وإن كان جبناً اجتماعياً متوارثاً. فثقافتنا الدينية الإسلامية وأعرافنا الاجتماعية تحثنا على الستر. أتعرف ما هو الستر؟ هو نقيض الفضح. أي ألا تفضح ما أُستتر من عورات الناس. وعورات الناس هذه لا تعني فقط عوراتهم الحسيّة، بل حتى عوراتهم النفسية والفكريّة. هذا توجه إسلامي أصيل، وهو من أنبل القيّم في حياة المجتمعات البشرية. إذا كنت تريد أن ترى مثلاً ناصعاً لمدى عمق ونبل هذا المبدأ الإسلامي، إليك المثال التالي : في النصرانية – ولا أقول المسيحية- يذهب المذنب- إذا أثقل الذنب على ضمير صاحبه- إلى الكنيسة، وفي غرفة الاعتراف، يكون بينه وبين القسيس حجاب شفّاف، ليعترف بما أرتكبه من ذنب، والحكمة في ذلك أن هذا الاعتراف يخفف من شعور المذنب بذنبه حتى يبوح به لكاهن. أما الإسلام الذي يبدي حرصاً أكبر على كرامة الإنسان فيضع منهجاً آخر، وهو قيام الليل. ففي قيام الليل، والناس نيام، تعترف في جلسة خاشعة، وتضع كل آثامك بين يدي الخالق وتطلب منه الرحمة والمغفرة، دون أن يطّلع عليها مخلوق. إنها أشبه بجلسة الاعتراف ولكن بينك وبين خالقك. إنها جلسة علاج نفسي تتطّهر فيها من رواسب الشعور بالذنب والخطيئة المرة في روحك. الخلط بين واقعين إلا أننا خلطنا ذلك بالعمل العامّ. في العمل الخاص أنت مطالب بأن تستر نفسك، والله سبحانه وتعالى ورسوله المبلِّغ عنه بالحق عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، يطالبانا بهذا الستر، ومعلوم بالضرورة أن المجاهرة بالمعصية تعتبر في ذاتها معصية تتساوى والمعصية الأصلية، وفي المأثور يقال إذا ابتليتم فاستتروا. وبالتالي فإن ستر الإنسان – لا المؤمن وحده- للإنسان يُعتبر من فضائل الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام. خاتمة : وطالما أن أثمك لا تتجاوز أضراره نفسك فلا تثريب عليك، أما إذا تجاوزت خطيئتك لتصيب غيرك فإن الله سبحانه وتعالى قد وضّح منهاجاً لذلك أيضاً. وهذا ما يسمى الآن بالعمل العامّ .
مشاركة :