هل يحقّ لكاتب معاصر إعادة كتابة قصص لكاتب ينتمي إلى عصر آخر، ويسمح لنفسه بالتصرّف فيها إضافة وحذفاً وتعديلاً، ويغيّر الإطار المكاني والزماني لحركة الأحداث؟ وفي هذه الحالة، هل تعود الملكية الأدبية للكاتب الجديد أم القديم؟ وكيف يمكن ترسيم الحدود بين النصين القديم والجديد؟ هذه الأسئلة تطرحها قراءة «عشر ليالٍ وراوٍ» (دار الساقي، ترجمة جان هاشم)، المجموعة القصصية للروائي المغربي الطاهر بن جلون، المترجمة إلى العربية التي استوحاها من قصص الكاتب الفرنسي شارل بيرو الشهيرة. ففي أواخر القرن السابع عشر، قام بيرو بكتابة «الحكايات»، مستوحياً أساطير أسلافه وخرافاتهم، وبعد ثلاثة قرون يقوم بن جلون بإعادة الكتابة مبرّراً ذلك بعالمية الحكايات، وتشابهها مع «ألف ليلة وليلة»، واستمتاعه بها على مقاعد الدراسة حين كانت تقرأها معلّمة اللغة الفرنسية. في المقدّمة يحدّد الكاتب مظاهر التصرّف التي قام بها، تحت عنوان تشريق الحكايات، بإضافة نكهات وألوان وتخيّلات أخرى، تعريب الإطار وأسلمته، الاحتفاظ ببنية الحكاية الأصلية والخروج عن النص، كسو الهيكل العظمي للحكاية بجسد وروح جديدين... وتتمظهر عملية التشريق في: عنوان الكتاب «عشر ليالٍ وراوٍ» الذي يحيل على «ألف ليلة وليلة»، استهلال ثماني قصص من أصل عشر بعبارة «كان ما كان في قديم الزمان»، مزج الواقع بالخرافات والأساطير ومشاركة الجن في الأحداث، استلهام التراث الحكائي العربي، الإفادة من الحاضر الإسلامي وما يفرزه من ممارسات متشدّدة، ذكر بعض الطقوس الدينية الإسلامية، استخدام المكان القصصي الإسلامي، استخدام أسماء شرقية... وتتفاوت هذه التمظهرات من قصّة الى أخرى، غير أن المشترك بينها هو هذا المزج بين الماضي والحاضر، الواقع والخوارق، الإنس والجن، المكان المتخيّل والمكان الحقيقي، ما يجعلها تدور في مناخ الواقعية السحرية. واللافت في هذا السياق أن شخصيات الجن تلعب في معظم القصص أدواراً إيجابية، فترفع الظلم، وتحقّق الأمنيات، وتؤمّن العدالة. تقوم القصّة في الكتاب على الصراع التقليدي بين الخير والشر الذي يتمخّض عن انتصار الخير في نهاية المطاف. وهو صراع ينخرط فيه البشر والجن والحيوانات والكائنات الخرافية، والبنية القصصية بسيطة تتّخذ مساراً تصاعدياًّ ينجلي في النهاية عن انتصار أحد طرفي الصراع، وهو الخير. وتنطوي كل قصّة على رسالة معيّنة. وهنا، تقترن المتعة الناجمة عن القصّ والتخيّلات والخوارق بالفائدة الكامنة في الرسالة. الرسالة التي تحملها «جميلة الغاب النائمة»، القصّة الأولى في المجموعة، هي أن طابخ السم آكله؛ فالملكة الأمّ التي تستعين بالغول لتقتل الأميرة تموت مسمومة بالقلب الذي يأتيها به الغول، وانحياز هذا الأخير إلى الخير يشكّل خروجاً على المأثور الحكائي الشفاهي النمطي الذي طالما نسب الغول إلى الشر. الرسالة نفسها تنطوي عليها القصّة الثامنة في المجموعة «الإبهام الصغير»، معطوفةً على رسالة أخرى تقدّم الجمال الداخلي والفطنة والذكاء على الجمال الخارجي، فالولد البشع الصغير، المنبوذ في أسرته، هو الذي ينقذ إخوته من الضياع وأسرته من البؤس، ويتدبر أمر القضاء على الغول الشرّير الذي يقتل بناته من طريق الخطأ، ودور الغول هنا، ينسجم مع دوره التقليدي خلافاً لدوره في القصّة الأولى. في «فتاة البرقع الأحمر»، القصّة الثانية في المجموعة، التي تتقاطع مع حكاية «ليلى والذئب»، وتستلهم التراث والحاضر والتاريخ، تبرز أهمّيّة الذكاء والشجاعة في القضاء على الشر، فالبنت الصغيرة تتمكّن بذكائها وشجاعتها وإيمانها من القضاء على الرجل الملتحي الذي يستخدم الدين لتحقيق أغراضه الدنيئة. وغير خفيٍّ هنا التعريج على الحاضر والتعريض بممارسات المتشدّدين الإرهابية وتعرية نفاقهم. وإذا كان الانتصار على الشرّ في القصص السابقة يتمّ بجهد فردي يقوم به الغول أو الصغير البشع أو البنت الصغيرة، فإنّ هذا الانتصار يتمّ بفعل تضافر الجهود في «أبو لحية زرقاء»، القصّة الثالثة في المجموعة، فخديجة تتمكّن بمساعدة آخرين من الإيقاع بالرجل الغني، الغريب الأطوار، الضخم، العاجز جنسيًّا. وهذه القصة نوع من التنويع على العلاقة بين شهريار وشهرزاد، مع فارق أنّ خديجة/ شهرزاد، هنا، تُوقع بالرجل/ شهريار ليتمّ اعدامه لاحقاً، ولا تسعى إلى ترويضه، كما فعلت شهرزاد. على أنّ ثمّة خللاً في بناء الشخصية في الحكاية، فكيف يستوي أن يكون الرجل ضخماً وعاجزاً جنسيًّا، بخيلاً ويغدق في العرس، يحجّ ويصلّي ويرتكب الكبائر، عاجزاً ويأتي بالنساء الى فراشه؟ في «الهر أبوجزمة»، القصّة الرابعة، يُبرز الكاتب أهمّيّة الذكاء والدهاء والمبادرة في تقرير المصائر، مع فارق أنّ بطل القصّة الذي تتوافر فيه هذه الصفات حيوان وليس إنساناً؛ فالهرّ الذي ورثه رشيد عن أبيه على مضض، هو الذي ينقله من الفقر الى الاستقرار والزواج من الأميرة. على أنّ تدخّل الحيوان في مصلحة البشر في هذه القصّة شبيهٌ بتدخّل الجنّ في القصّتين الخامسة والسادسة. في القصّة الخامسة، «الجنيّات»، تتدخّل الجنّيّة لرفع الظلم الذي يُنزله البشر بعضهم ببعض ومعاقبة الظالم ومساعدة المظلوم، ففي حين تميّز الأم بين ابنتيها في المعاملة، فتتوزّعان بين ظالمة ومظلومة، تأتي الجنّيّة لتعاقب الظالمة وتنصف المظلومة. كأن القصّة تقول إن تحقيق العدالة على الأرض يحتاج إلى قوى ما ورائية خارقة، فالجن يصحّحون أخطاء البشر. الرسالة نفسها تحملها «سندريلا»، القصّة السادسة، فالجنّيّة لالاعائشة تتدخّل بواسطة السحر لمساعدة سكينة/ سندريلا التي يقع عليها ظلم خالتها وابنتيها، فتأخذ بيدها حتى الزواج من الأمير. لعلّ القصّة تقول إن الصبر على الظلم عاقبته جميلة. القصّة السابعة «حكيم أبو خصلة» تتكامل فيها قصّتان اثنتان لتقول بتقدّم الذكاء والطيبة والفضيلة على الجمال الذي هو «غشاء النفس ولا يعني دائماً الطيبة والفضيلة» (ص162). هنا، أيضاً يتدخّل الجنّ إيجابيًّا، فالجنّيّة ميمونة تنجح في تحويل موقف الملك والملكة من ابنهما البشع الذي يُحقّق بذكائه المعجزات. الأمر نفسه تقوله القصّة التاسعة «إهاب الحمار» بطريقة مختلفة، فالطيبة والجمال البشريّان مقترنين بمساعدة الجنّ يؤثّران في قرارات الحاكم؛ ذلك أنّ الزوجة «سندوس» والابنة شهرزاد تنجحان في جعل قرارات الملك إنسانية وشعبية، فيثوب إلى رشده بعد ضلال وانحراف؛ في الوقت الذي يلعب رجال الدين دوراً سلبيًّا، فيسوّغون له تصرّفاته غير المشروعة، ويزيّنون له الظلم. القصّة العاشرة والأخيرة في المجموعة «الأماني الفارغة» تقول بتقدّم الصحّة على السلطة والمال؛ فالبؤساء الذين يسعون إلى الهروب من واقعهم بوسائل غير مشروعة (المخدرات) يؤثرون العودة إلى الواقع بعد أن تحوّلت أمنياتهم إلى أعباء، فيدركون عندها نعمة الصحّة. وخلاصة القراءة في القصص العشر أنّ الضعفاء والمظلومين إذا ما أتيح لهم الذكاء والفطنة والمبادرة والمساعدة يستطيعون الانتصار على الظالمين الأقوياء، وأنّ الكلمة العليا للخير، فالشر وأدواته الى زوال. أراد الطاهر بن جلّون الذي وضع كتابه بالفرنسية، بما نسجه من أحداث يزاوج فيها بين الخارق والعادي، الواقع والسحر، الحقيقة والخيال، وبما انطوت عليه قصصه من رسائل، أن يقول للغرب، في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، أنّ للبلدان العربية رواية أخرى «بعيداً عن سمات الفاجعة والمأساة ومن خارج سياق التعصّب والإرهاب وما تُوصم به» (ص9)، وأعتقد بأنّه نجح في ذلك، فهل يقرأ الغرب؟
مشاركة :