بأسرع مما كان يعتقد الجميع تراجعت إيران عن تعهداتها بتقديم التسهيلات إلى موسكو من خلال السماح للقاذفات الروسية بالانطلاق من قاعدة همدان لضرب أهداف في سوريا. وعكست التخبطات الإيرانية في ردة الفعل على كشف روسيا لهذا الجزء الذي بررته بأنه يأتي في سياق تعاون البلدَيْن في الحرب على الإرهاب. فمثلاً تصريح وزير الدفاع الإيراني حسن دهقان الذي اعتبر إعلان موسكو استخدام قاعدة همدان بأنه (استعراض) وتجاهل مرفوض لإيران. من الطبيعي أن يحدث ذلك؛ فالتاريخ بين روسيا وإيران لا يكذب؛ فالعلاقة لم تكن يومًا علاقة منسجمة منذ الاتحاد السوفييتي حتى ما قبل الثورة الإسلامية، غير أن هنالك تحولات هي التي تقود موسكو وطهران وحتى أنقرة لتشكيل حلف مصالح، لا يقوم على علاقات استراتيجية؛ فكل الأطراف الثلاثة ليس جزءًا من استقرار الشرق الأوسط بقدر ما كان مأمولاً مع بداية الفوضى العارمة في 2011م. تشعر إيران بكامل المخاوف من عودة وشيكة للعقوبات الدولية عليها؛ ففي خلال عام من «الاتفاق النووي» المبرم مع الغرب في 15 يوليو 2015م دخلت إيران في أزمات متعددة، منها الاعتداء على السفارة السعودية في طهران، وتجارب الصواريخ البالستية، إضافة إلى إعدامها عشرات المعارضين؛ لذلك تسعى طهران بكل جهد إلى عدم تكرار عزلتها عن الاقتصاد العالمي؛ فقد باتت الروابط التجارية المعقدة بين الدول وسيلة للحد من إمكانية فرض عقوبات اقتصادية. عقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اجتماعَيْن منفصلَيْن مع الرئيس الإيراني حسن روحاني في حضور الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، ومع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. ورغم أن أجواء الحرب والتوتر تسيطر على بقاع شتى حول العالم إلا أن العلاقات الاقتصادية الثنائية قد تصدرت أجندة الاجتماعَيْن. ولطالما اعتقدت إيران أن كونها مصدرًا رئيسيًّا للطاقة، وحاجة الغرب الماسة لتلك الطاقة، ستمنعه من معاداتها وفرض أي عقوبات عليها. وخلال الألفية الجديدة أظهر حلفاء لواشنطن في أوروبا وآسيا عدم استعدادهم لقطع علاقاتهم الاقتصادية بشكل كامل مع طهران؛ وهذا ما جعل إيران تشعر دائمًا بقدرتها على التملص من التزاماتها، وحتى من أخطائها. الرهان الإيراني كان خاسرًا في أكثر الأوقات؛ فقد استطاعت الحكومات الغربية التحايل على تلك الميزة بإيجاد مصادر بديلة للطاقة. وقد حلت شركات الغاز الروسية محل الإيرانية في توريد إنتاجها إلى دول جنوب أوروبا. وبعد أن دخلت التكنولوجيا المتقدمة على الخط جرى اكتشاف مخزونات من النفط والغاز في أمريكا الشمالية، وتعرضت دول أخرى مثل الهند لضغوط شديدة من الولايات المتحدة للتوقف عن استيراد النفط الإيراني. وقد أضعف هذا من قدرة إيران على الإنتاج، وعلى استكشاف مصادر جديدة. وقد ظلت إمدادات النفط الإيراني تنخفض من 2008، ووصلت ذروة انخفاضها في 2014، دون أن يلحق أي ضرر بالمستوردين الذين عثروا على مصادر بديلة. وحتى لا تقع فريسة للعقوبات مستقبلاً تسعى إيران إلى أن تكون ممرًا استراتيجيًّا للتجارة العالمية، كما تحاول إعادة مستوى إنتاج النفط إلى سابق عهده، لكن انخفاض الأسعار الحاد الذي ضرب صناعة النفط العالمية يقف حائلاً أمام ذلك؛ ولذلك تسعى إيران بجدية شديدة إلى إنجاز مشروع الممر (الشمالي - الجنوبي) لاستخدام موانئها على الخليج العربي والمحيط الهندي والطرق السريعة وخطوط النقل للربط بين جنوب وشرق آسيا بأوروبا؛ ما سيوفر الكثير من الوقت على مستهلكي البضائع الآسيوية في أوروبا. روسيا وأذربيجان هما أكبر المستفيدين من هذا المشروع؛ إذ إنه يوفر أسهل وأرخص وسيلة لنقل (النفط والغاز) إلى أوروبا؛ ولذلك تعهدت الدول الثلاث بتسريع الخطى نحو إنجاز المشروع. تسعى إيران بقوة في هذا بحثًا عن لجوء آمن من عقوبات دولية، قد تفرضها عليها الولايات المتحدة؛ فعامل الوقت هو أحد العوامل المهمة بالنسبة للإيرانيين. أنقرة هي الأخرى تشعر بأهمية أن تلعب الدور القطبي (اقتصاديًّا)؛ فمستقبل تركيا مرهون بجعل نفسها قطبًا رئيسيًّا في نقل موارد الطاقة إلى أوروبا. وقد أثار تصاعد الخلاف مع موسكو تساؤلات حول إمكانية إنجاز أنبوب نقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا. وبعد التوتر الذي ضرب العلاقات التركية مع الغرب، إثر فشل محاولة الانقلاب التي وقعت في تركيا، تشعر أنقرة بأنها في حاجة إلى استفزاز الغرب للإبقاء على علاقاته معها، بعد أن بدأ الغرب يشعر بأن تركيا جزء من المشكلة، وليس الحل في منطقة الشرق الأوسط. تسعى تركيا إلى أن تكون ممرًا لنقل موارد الطاقة، وقد أبرمت اتفاقًا بالفعل مع أذربيجان، وتسعى لإقناع إيران بنقل جزء من إنتاجها إلى الغرب، وتعتزم روسيا استبدال أوكرانيا بتركيا لنقل إمداداتها من الطاقة إلى أوروبا قبل 2020م. هذا يعني أن الأدوار التركية ستتعاظم، وسيصعب على الغرب إيقاع عقوبات على تركيا في حال تمادت أنقرة في ملفات حقوق الإنسان التي لطالما لوحت بها عواصم أوروبية. سعي روسيا إلى إيجاد شريك جديد يكون وسيطًا لنقل إنتاجها من الغاز إلى أوروبا ما زال عنوان الاستقطابات، وتدرك أوروبا أنه في حال إذا ما اتفقت كل من روسيا وتركيا ستتمكن موسكو من إيصال إمداداتها مباشرة إلى ألمانيا، وستتجاوز العديد من العقبات في أوروبا. هذه التحديات هي التي تدفع العواصم المتنافرة تاريخيًّا إلى الالتقاء؛ فالمصلحة الاقتصادية والتنافسية الدولية تقتضيان التقارب حتى وإن كان بين العقارب.
مشاركة :