هناك فيلم يحمل عمقا فلسفيا في نظري، اسمه (رجل من الأرض) كاتبه جيروم بيكسبي، ومخرجه ريتشارد شينكمن. الفيلم عبارة عن حوار يجمع بعض الأساتذة الجامعيين مع زميلهم الذي قدّم استقالته لسبب غير معروف وقرر ترك البلدة التي شاركهم العيش فيها. يعترف لهم زميلهم في إحدى لحظات الفيلم بأنه رجل معمّر جداً عاش آلاف السنين، وإنه لسبب لا يدركه محصّن من ظهور علامات تقدم السن عليه. لذلك فهو مضطر لترك كل بلدة يعيش فيها بعد عشر سنوات على الأكثر قبل أن يلاحظ الناس هذا! وردت في الفيلم عدة أفكار لافتة، ولكن الفكرة التي أودّ تناولها هنا هي أن هذا المعمّر رغم عيشه لكل تلك القرون، لم يكن يتفوّق من حيث إدراك عالمه الذي يعيشه على زملائه بقدر هائل من المعرفة. وقد تساءل زملاؤه عن هذه المفارقة قبل أن يقنعهم بجوابه. كان مضمون جوابه كالتالي "أنا رجل محدود بقيود الزمان والمكان، إضافة إلى قيد الجسد الصغير الذي يحتويني، ولذلك فلن يميزني من المعرفة سوى ما أدركه عن طريق التجربة المباشرة، ولذلك لم أعرف شيئا عن دوران الأرض حول الشمس قبل أن يقرره كوبرنيكوس، وكذلك لم أعرف بأمر الجاذبية قبل نيوتن، كنت أعرف مثل هذه الأشياء في الوقت الذي يعرفها فيه أغلب الناس وليس قبل ذلك". أما عندما سألوه عن كون عمره قد وفر الفرصة الكافية له لدراسة كل العلوم التي درسوها، فإنه أجابهم "بأنه فعل ذلك حقا في سنوات عمره الماضية، ولكن هذا لا يجعله متفوقا عليهم كثيرا لأن العلوم في تجدد مستمر، ودائما ما تدرس الناس النسخ الأخيرة من كل علم، وهذا يعني أن أغلب ما يدرسه يفقد فاعليته وقدرته على تفسير المستجد من الأمور بعد أمدٍ من الزمن". تبدو هذه مفارقة لأول وهلة، ولكن إجابات الرجل بدت إزاءها مقنعة إلى حدٍّ بعيد. بل تحمل في طياتها دلالة على أحد أهم الفوارق الجوهرية بين المعرفة البشرية وطريقة الإدراك الحيواني، ففي حين أن الأخيرة تعتمد بالإضافة إلى مخزون الغرائز على طريقة التجربة المباشرة ومحصول الأخطاء من كل تجربة، فإن المعرفة البشرية ليست كذلك في حقيقتها. يعتمد التراكم المعرفي لدى البشر على محصلة تجاربهم كجنس وليس كأفراد. فالمعرفة ذاكرة مجموع الجنس البشري لا ذاكرة كل فرد على حدة. ذلك أنهم جنس يمتلك القدرة على نقل نتائج ملاحظاته وتجاربه بواسطة المشافهة اللغوية والكتابة عبر الأجيال، وهو ما لا تمتلكه الكائنات الأخرى. هذا ما يجعل اكتشافا عرضيا لشخص ما كفيلا بأن يغير عادة ألفها الناس على مدى قرون. فلنفكر في أول شخص أشعل النار، أو أول شخص اكتشف التيار الكهربائي، وكيف كان أثر ذلك على الملايين من البشر دون أن يكون لهم دور حقيقي في معايشة التجربة الأولى لهذين الاكتشافين. لعلّ هذا الشرح كفيل نسبيا بأن نرى في الأمر شيئا من البديهية، ولكن ماذا عن حقيقتنا؟ هل نحن على الدوام غير غافلين عن هذه (البديهية)؟ من المؤسف أن الأمر ليس كذلك لدى الكثير منا، فلنلق نظرة على بعض مخزونات ثقافتنا، ولنأخذ إحدى العبارات الشائعة على سبيل المثال وهي: "أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة"! يردد هذه العبارة كثير ممن حولنا على تفاوت في الاقتناع بها ولكنها تحمل على الأقل انعكاسا لتقديس تقادم السن المجرد في مجتمعاتنا وربط ذلك بالتراكم المعرفي. في نظري أن هذه العبارة قد تصدق في بعض البيئات، ولكن البيئة البشرية ليست منها على كل حال، إلا في حدود ضيقة جدا من المعارف الفردية التي قد يكتسبها أحدهم عن طريق التجربة والخطأ في حالات يصعب فيها تعميم الاستفادة من التجارب. المعرفة عابرة للمكان كما أنها عابرة للزمان، ولذلك فإن من أفدح حالات ربط التراكم المعرفي بالتراكم الزمني، هي تلك التي يحاول فيها بعضهم وضع معيار يقيس به حضارة الأمم وفق الأقدمية التاريخية والزمنية. كثير من المتعاطين للحرف في مجتمعاتنا يقعون في هذه المغالطة باستمرار، فترى أحدهم يكثر من استعمال عبارة كهذه: "نحن حضارة لها آلاف السنين، ولسنا كتلك الأمم التي ظهرت البارحة". عند التدقيق في عبارة كهذه نجد أنها خالية من المعنى، فالحضارة تقوم على بناء معرفي لا يرتبط بالضرورة بالأقدمية العمرية. الحركة هي ما يصنع المعنى للزمان، والزمان بدونها مجرد ظرف خاو لا لبّ فيه مهما تطاول. تتجلى الحقيقة كضوء يغمر العالم، والمعرفة هي مقدار ما تتعرّض العقول إلى حقول إشعاعه. ولا شيء يحول دون التعرض لذلك الإشعاع كما يفعل التعطل عن الحركة. ولا شيء يعطل عن الحركة مثل الارتهان إلى حفنة ضوء قديم ماض نحو الخفوت. صحيح أننا محكومون بقيود الزمان والمكان، وبحدود أجسادنا ومورّثاتها، ولكن من حسن الحظ أننا نمتلك دائما ما يعوّضنا إزاء هذا، وهو القدرة الفائقة لمخيلتنا على تجاوز تلك القيود. تلك المخيلة التي بدونها لن نتلمس الفارق الجوهري بيننا وبين ذوات الأربع.
مشاركة :