لم يكن "أحدب نوتردام"، قزم رواية فيكتور هوغو الدميم محني الظهر والقبيح، يتوقع أن هؤلاء الرفاق سينضمون إليه في القرن الحادي والعشرين، جزرات ذات 4 رؤوس، حبات بطاطس لها أقدام وأيدٍ، حبات كوسة مفلطحة عملاقة، طماطم كأنها توائم ملتصقة. مثل أقرانها البشر، فإن هذه الخضراوات لا ذنب لها إلا في كونها مختلفة، ومشوّهة، لهذا كان مصيرها الإجباري سلة القمامة بدل أفواه الجائعين! في الوقت الذي يحتضر فيه طفل في طرف أفريقيا من شدة الجوع، تستقبل حاويات القمامة في أميركا ما يصل إلى 40% مما تزرعه سنوياً، أي ما يصل إلى النصف، لكن، أنت لست بريئاً من هذه الجريمة الظالمة كما تظن. ماذا لو كان فيكتور هوغو حياً ليشاهد هذا؟ "الطعام القبيح" هو طعامٌ يرفضه الجميع، المزارعون ومحلات السوبر ماركت والمطاعم، والمستهلك نفسه، يتركونه خلف ظهورهم بسبب مظهره فحسب، والنتيجة جبال من الأطعمة المنبوذة. أكثر من 6 مليارات باوند من الفاكهة والخضراوات لا يتم حصدها أو بيعها في السنة الواحدة، جميعها تقع ضحية للمقاييس الجمالية التافهة، الأمر وصل لدرجة أن هناك قوانين كان قد سنّها الاتحاد الأوروبي بمنع بيع الخضراوات والفاكهة ذات الأحجام الغريبة أو الأشكال الممسوخة بشكل رسمي. بعض هذه القوانين كان مدهشاً في دقته، ليس مسموحاً لك أن تبيع نبات الهليون إلا إذا كان أكثر من 80% منه أخضر، الخيار أيضاً ممنوع أن تكون انحناءته أكثر من مقدار معين، في رواية فيكتور هوغو، بطل الرواية طفل أحدب الظهر، لقيط قبيح المظهر بقي معزولاً في الكنيسة قارعاً أجراسها، حيث لم يرد سيده له أن يخرج أمام الناس بسبب مظهره السيء. الطعام الضائع.. نزيفٌ مستمر ثلث طعام العالم لا يصل إلى أفواه الجائعين في النهاية، هذه كارثة تكلف العالم مئات الميارات من الدولارات، والأرواح. الطعام الضائع لا يتوقف عند مرحلة البدايات، بل هو نزيفٌ مستمر يشمل كل خطوة بداية بالحصاد ومروراً بالنقل والمعالجة ثم المتاجر والمستهلكين، 50% من نفايات الطعام في الدول النامية تحدث بسبب مشاكل الحصاد غير الكافي، والتخزين والنقل الذي عفا عليه الزمن، حتى دولة متقدمة مثل الولايات المتحدة خسرت 43 مليار باوند من الطعام على مستوى البيع بالتجزئة فقط في 2008، سياسات المولات والأسواق من نوع "اشترِ هذا واحصل على الآخر مجاناً"، والأكياس الكبيرة تدفع الناس لشراء ما يزيد على حاجتهم. باحثون في جامعة أريزونا الأميركية وجدوا أن 14% من المخلفات كانت أطعمة قابلة للأكل، التي لم يكلف أصحابها أنفسهم عناء إخراجها من علبتها حتى، الشيء الذي لا يصدق، أن كمية نفايات الطعام في الدول الصناعية تساوي الإنتاج الغذائي مدة عام كامل في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. هل يجد "الطعام القبيح" طريقه لبطون الجائعين؟ السنوات الأخيرة ظهرت في جميع أنحاء العالم "حركة الطعام القبيح"، بالذات في أوروبا وأستراليا، لكنها لم تصل إلى الولايات المتحدة بشكل جدي بعد، كحل للهدر المرعب الذي يحدث في نفايات الطعام. "الطعام القبيح" يأخذ الآن مكانه في بعض الأسواق بجانب قسم "الطعام العضوي" و"الطعام المحلي"، نحن نعرف أنك لم تتعود أن تشاهد جزرات متعددة الرؤوس أو تفاحات منبعجة في رحلة تسوّقك اليومية، لكن على ذلك أن ينتهي الآن. وبالرغم من الاسم الذي اشتهرت به الحركة، لكن المسوقين لا يستخدمون هذه الكلمة، بل إنهم يستخدمون كلمات فنية، مثل سلسلة محلات سوبر ماركت فرنسية قامت بتسميته "قسم الطعام المغمور"، أما سلسلة محلات ASDA البريطانية فقد أطلقت عليه اسم "قسم الطعام المعتل"، أما في كندا فقد سمته سلسلة محلات "قسم الأطعمة ذات النقص الطبيعي"، الطاهي المشهور جيمي أوليفر يقدم نفسه على أنه مروّج لحركة يسميها "حركة الطعام الجيد". مخاوف لكن هذا لا ينفي أن سلاسل المحلات الشهيرة متخوفة من هذه الخطوة، حتى أن "تيسكو" التي تعد واحدة من أكبر المتاجر البريطانية لم تجرؤ على أن تقوم بهذه الخطوة في بريطانيا نفسها، وإنما قامت ببيعها في أجزاء من أوروبا، قائلة إن "المستهلك البريطاني لا يزال غير مستعد بعد لهذه الخطوة". الاتجاه بدأ ينمو في أستراليا بسبب جهود الطاهي جيمي أوليفر، لكن هناك بعض السلاسل لا تزال مترددة أيضاً. في سنة 2014، قام الناشطون في هذه الحركة بتسميتها "السنة الأوروبية لمواجهة نفايات الطعام"، وقد سلطوا الضوء على أزمة الطعام القبيح بالذات، وهو الشيء الذي انعكس على الباعة، والمشترين، لكن لا يزال من الصعب علينا أن نعرف مدى نجاح هذه الجهود. هل نظلم الطعام مثلما نظلم النساء في مقاييس الجمال؟ في عصر العولمة، يتمّ تعميم النموذج الواحد من الجمال النسائي، نموذج كامل، وهو الشيء الذي نجده بوضوح في عيادات التجميل، التي تخرج منها كل النساء متشابهات، هناك مقاييس معينة، النساء اللواتي لا يطابقن هذه المواصفات يتم إقصاؤهن إلى الظل معتقدين أنهن غير جميلات. وهذا ما يحدث في الطعام، المستهلكون في البلاد المتقدمة تمت برمجة طريقة تفكيرهم في عصر التسويق والرأسمالية، أن "الكمال" هو في المقاييس الموحدة، أو فكرة "النمط الواحد"، يجعل أي ما يخرج عنها غير مرغوب فيه، حتى لو كان أكثر صحة أو ألذ. الأمل في تغير طريقة الناس في التفكير والاختيار، يأتي من "الأغذية العضوية"، التي بدأت بالفعل منذ 40 سنة لكنها لم تحصد هذه الشعبية الهائلة في تجارة الأغذية إلا في السنوات الحالية، "الطعام القبيح" يتفوق على الطعام العضوي في كونه ليس "موضة" أو اتجاهاً يكلّف أكثر، كما أنه لا يضر المزارع أو البائع بخسارة واحدة، في النهاية، هذا طعام كان يسير نحو مكبات النفايات، وغيّر طريقه، ليستقر في جيوب البائعين والمزارعين، وفي بطون الجائعين. كيف يكون "الطعام القبيح" جميلاً؟ في روايته، أحدب نوتردام وقع الأحدب في حب الجمال الإنساني المحروم منه، والموجود في أعماقه الداخلية، والذي تمثل في الغجرية أزميرالدا، مقدماً التضحية تلو التضحية لئلا يفقد العالم هذا الجمال، وهو نفس الأمر عندما قررت منظمات خيرية مثل Food Recovery Network أن تكرس جهودها كي يجد "الطعام القبيح" طريقه إلى أفواه الناس في بلاد بعيدة يموت فيها الناس من الجوع. إذا تمكن القطاع الخاص من تحويل "الطعام القبيح" من كونه مجرد منتج قابل للبيع، إلى كونه منتجاً له شعبية، سيُصبح لدى الناس ثقافة التوجه له خصيصاً، وهذا سيكون تقدماً عظيماً ينقذ جزءاً كبيراً من الطعام الضائع. الولايات المتحدة تتحرّك بشكل أبطأ من الاتحاد الأوروبي في هذا المجال، لكن هناك محاولات جادة مثل شركة الطعام الكبيرة Bon Appetit Management، التي أطلقت السنة الماضية (2015) برنامجاً سمّته "ناقص لكن لذيذ" Imperfectly Delicious، والذي تسلم فيه ما يسمى "الطعام القبيح" للمطاعم والكافيتريات، وهذا يجعلنا نطرح الأسئلة: هل نحتاج مثل هذا الاتجاه في دولنا العربية؟ هل يمكننا أن نقلّل نفايات الطعام لدينا أو نوجهها للجهود الإغاثية؟ هل يوجد أملٌ في أن يغير المستهلك العربي تفكيره فيما يخص "الطعام القبيح" مستقبلاً، أم أنه سيصر على المشاركة في التراجيديا؟
مشاركة :