لم يكن كريم يتصوّر أنّه يمكن أن يزور طبيباً نفسياً من قبل، فالفكرة لم تكن مقبولة لديه لا بل يجدها عيباً تماماً كما كان يسمع من محيطه. فزيارة العيادة النفسية يعني من دون شك مشكلة عقلية أو «جنون»، وكلّ ذلك كان يردعه عن القيام بهذه الخطوة. لكن حين وصل مستوى الاكتئاب لديه إلى درجة إبعاد زوجته عنه ورفضه لأولاده وتعاطيه السلبي معهم، كان لا بدّ أن يستشير معالجاً خصوصاً حين بدأت الأفكار الانتحارية تراوده. فمشكلة كريم أنّه كان مديراً مهماً في شركة، لكن مع الأزمة الاقتصادية المستفحلة في لبنان اضطرت الشركة لإقفال أبوابها وصرف أكثر من 50 موظفاً. وبعد ذلك اضطر كريم للعمل في وظيفة ذات راتب محدود جداً وضمن بيئة مختلفة تماماً عمّا اعتاد عليه وعانى من سوء المعاملة، ما أدّى إلى تدهّور وضعه المادي والنفسي وشعوره بالفشل والإحباط. ومع مرور الأيام عانى كريم من الاكتئاب الحاد والانعزال التام، وحين بدأت ردود فعله تؤثر على أسرته تنبّه إلى خطورة الوضع وأهمية الحصول على علاج نفسي، ولو كان ذلك سيقتطع أكثر فأكثر من موازنة الأسرة. كثيرة هي الضغوطات الحياتية في لبنان، ومعها تتكاثر الاضطرابات النفسية، فكما كريم هناك آلاف يعانون من مشكلات تسبب لهم التوتر، القلق، الإحباط وغيرها من المشاعر السلبية. وليس بسيطاً القول أنّ حالات الانتحار في لبنان تتجاوز المئة حالة سنوياً وفق التقارير الأمنية، وغالبيتها لأسباب معيشية ومالية، فذلك يُظهر حجم الكبت الذي يعاني منه اللبناني والسبب وراء التهافت المتزايد على العلاج النفسي الذي يمكن أن ينقذ حياة الشخص وأسرته. فالمشكلة النفسية لا تتوقف عند حدود المريض، بل تعني الأشخاص المحيطين به، إذ يمكن أن يطاولهم السلوك العنفي الذي يظهر بسبب بعض الاضطرابات. بين الأسباب الشخصية و»الوطنية» لا تزال الأسباب الشخصية من أبرز الحالات التي تستدعي التدخّل النفسي في لبنان كما تشرح الاختصاصية النفسية لارا حويك، ومنها مثلاً الطلاق وتأثيره على الأطفال، الانفصال الصعب عن الحبيب، الصعوبات التعلمية، العادات السيئة كإدمان الكحول أو المخدرات وما شابه، فضلاً عن الأمراض النفسية التي تتطلّب علاجاً طبياً متكاملاً بمساعدة العقاقير في معظم الحالات مثل الاضطراب ثنائي القطب، اضطرابات الأكل، الذهان وغيرها. لكنّ حويك تشير إلى تزايد الحالات النفسية المرتبطة في شكل أو آخر بالأوضاع المعيشية الصعبة في لبنان والضغوطات التي يعيشها المواطن. فهي تجد أنّ القلق وحالة عدم الاستقرار اللذين يعاني منهما كلّ شخص لا يمكن إلا أن تنعكسا على صحّته النفسية. لكن اللجوء إلى استشارة معالج نفسي غالباً ما تكون الخطوة الأخيرة قبل الانهيار التام، وبدفع من المقرّبين الذين يلاحظون حالة التدهور ولا يعرفون كيفية التعامل معها. وتذكر حويك حالة صادفتها وهي لم تعد مستغربة أبداً، حيث زارها شخص يعاني من الإحباط جرّاء قضائه أكثر من 5 ساعات في اليوم عالقاً في زحمة السير ليصل إلى عمله صباحاً ومن ثم يعود إلى منزله البعيد عن العاصمة ليلاً. فحالة التوتر التي يعيشها والنفور من هذه المشكلة اليومية ولّدا لديه مشاعر سلبية كثيرة كان يظهرها تجاه عائلته حيث يعاني من العصبية الشديدة في كلّ مرة يدخل فيها إلى منزله، وقد وصلت به الأمور إلى تعنيف زوجته بعدما سألته إذا كان من الممكن القيام بزيارات عائلية بعد وصوله من العمل. الكلفة عائق رئيس وعلى رغم الحاجة الماسة لمساعدة نفسية، يضطر كثر إلى محاولة معالجة أنفسهم أو اللجوء إلى المقرّبين أو أي مصدر إرشاد مجاني، فالكلفة المالية لا تزال العائق الرئيس أمام العلاج النفسي الفعلي الذي يمكن أن يحرّر الإنسان ويعيد السلام الداخلي إليه. ففي جولة لـ»الحياة» على مجموعة من العيادات النفسية، يتبين أنّ كلفة الجلسة الواحدة عند المعالج النفسي تبلغ نحو 50 دولاراً، والأكيد أنّ هناك حاجة لأربع جلسات في الشهر تقريباً أي 200 دولار من الموازنة. أما عند الطبيب النفسي، فتصل كلفة الزيارة إلى 100 دولار وتضاف إليها كلفة الأدوية التي تتطلّب مبلغ 200 دولار، وذلك ليس سهلاً أبداً في بلد حدّه الأدنى للأجور 450 دولاراً. ويذكر أنّ شركات التأمين وصناديق التعاضد الصحية لا تتكفّل بخدمات الصحة العقلية، وبالتالي فإنّ الكلفة يدفعها المواطن من جيبه الخاص. ويمكن لذلك أن يبرّر ما توصّل إليه الطبيب النفسي الدكتور إيلي كرم في دراسة أجراها في عام 2008، إذ أظهرت أنّ واحداً من كلّ أربعة أشخاص في لبنان يتعرّض لاضطراب نفسي في حياته، لكن 12.3 في المئة من المرضى فقط يتلقون العلاج.
مشاركة :